لقاء الغريب بالغريب

عبد الله خميس

من أجمل المُتع في الحياة، هي تلك الصُّدف النَّادرة التي تجعل غريبين - أو أكثر قليلاً- يلتقيان على طاولة واحدة، ثمّ سرعان ما ينشأ بينهما حوار حميم. حوار يبدأ بشيء من الفضول، ثم يتطور للحديث عن شؤون خاصة. عن وجدانيات وآراء لا يبُوح بها المرءُ كل يوم. وبدون أن يدرك المتحاوران كيف حدث هذا، يذهب الحوار بغير تخطيط إلى كبد الحقيقة. يصل إلى البوح والتقارب. فجأة يصبح هذا الغريب الذي التقيناه صديقاً كما لو أننا نعرفه بعمق من عدة سنوات. لربما نبوح له عن دواخل أنفسنا وأسرارنا بأكثر مما يعرفه عنّا أصدقاء عايشناهم لسنوات. أحب أن أُسمي هذا النوع من اللقاءات بلقاءات البحارة في الحانة. حانة ميناء. لعلها صورة أستمدها من فيلم (ثلاثة قروش للبحّار) لراؤول رويز.. حيث يلتقي البحّار المًخضرم بطالب شاب، ويعرض عليه ثلاثة قروش مقابل أن يوافق الطالب على سماع الحكاية التي سيقُصها عليه البحّار. حكاية مليئة بتجارب الحياة والسفر والموانئ والنساء والصراع مع الأمواج. أسميه لقاء البحّارة لأنّ البحارة يرتحلون من ميناء لآخر. وفي محطاتهم القصيرة على اليابسة يجمعهم دفء شراب (الروم) وحميمية الحانة، حيث تنشأ الصداقات وتنتهي. حيث البوح يأتي بلا مقدمات. حيث يعيش المرء عمرًا كاملاً صاخباً في ليلة واحدة، يسرد حكاية حياته لشخص غريب كمن يشرب ثمالة الكأس الأخيرة، لأنّه يعلم أنّه لن يلتقي بذاك الغريب مرة أخرى.

كم أحب لقاءات بحارة الموانئ. لا أعني البحارة حرفيًا، لكني أقصد أيّ غريبين يلتقيان صدفة لسويعات فتنشأ بينها صداقة عجيبة في جلسة واحدة، ثم يفترقان إلى الأبد. أنا ملّاح مثلهم، ولي موانئي المؤقتة. ولدي حكاياتي التي لا أُخبر بها إلا العابرين، الحكايات التي تُقال كاملة لشخص لن ألتقيه مرة أخرى. تحدث صدفة لقاء البحارة غالباً في السفر. عند مَشرب على الرصيف، أو مقهى على ضفة نهر. تحدث غالباً عند السفر، في مَواطن لا نعرف فيها أحدًا، لكننا جئنا إليها من مواطننا بحب كبير حين اخترنا الترحال إليها. مَواطنُ نحن مستعدون أن نُصادق ناسها وأشجارها ونسمات هوائها ونادلاتها اللطيفات. مستعدون لنُآخي غرباءها الذين هم ملّاحون مثلنا، مسافرون لاكتشاف شيء جديد وتجربة شيء مُغاير. إننا -عند السفر- جميعنا بحّارة. جميعنا لدينا حكاية نود أن نتشاركها، وسرّ أجّلنا البوح به حتى نلتقي بالغريب المُناسب. وحين نعود لأوطاننا فإنّ تلك الصداقة العميقة العابرة التي دامت ليلة واحدة تكون هي أفضل ذكرى نأخذها إلى مخادعنا من ذلك البلد.

لكن السفر ليس مطلبًا ضروريًا للقاء البحارة. بل إنّه لا ضمانة هناك أنّ السفر سيُقدم لناء بالضرورة فرصة لقاء الغريب بالغريب في جلسة بوح حميمة. يمكن ألا يحدث ذلك في السفر، كما يمكن أن يحدث لقاء الغرباء في موطنك الأم. كل ما عليك هو أن تكون مُشْرَعَا لتكون حضناً للآخر إذا احتاج إليك. أن تصغي له بانتباه. تشاركه تجربته. تطلب منه تفاصيل أكثر. وإذا كانت فتاةً جاشت بها الذكرى وهي تبوح بمشاعرها، فليكن حضنك هذه المرة حقيقياً لا افتراضياً. لعل هذا الحُضن يكون الترياق الذي يحتاج إليه كلاكما حتى يتعافى من بعض وعثاء الحياة.

لقاءات البحارة قليلة. والمحظوظون السعداء هم مَن يحصل معهم الأمر مرة كل سنتين أو ثلاث. ولقد كنت أحدهم أكثر من مرة، في السفر وبلا سفر. لن أستطيع أن أصف النشوة التي تملأ نهاري التالي عقب كل مرة التقي فيها بغريب أتبادل معه البوح الحميم. البارحة مثلا، كي لا أذهب أبعد، كيف تسنى لكل ذلك المرح أن ينشأ فجأة بيني وبين الزوجين البريطانيين اللذين التقيتهما صدفة، وانتهى بي المطاف أسوق بهما مسافة طويلة مُقلّا لهما لمنزلهما، لأنّ الصداقة التي تكونت بيننا في جلسة واحدة جعلتني لا أقبل أن يستقلا سيارة أجرة كالغرباء. يا إله العرش! بضع ضحكات ورشفات من إكسير مُتبادل جعلتنا أصدقاء في ساعةٍ! ما أعظم موانئ البحّارة!

وهل أنسى الفتيات اللاتي فتحن قلوبهن لي، وطهّرن قمصاني بمدرار دموعهن وهن يسردن لي عن خيانات الأحبة وقسوة الزمن؟ وتلك التي باحت بأسرار لن تعرفها عنها يومًا أُمها، كما لن يعرفها زوجها. وأنا الذي تركت العنان لروحي لتسرد فصولَ أفراحٍ وأتراحٍ، عن رغبات مكبوتةٍ تارة، وعن حب موءود، وعن اشتهاءات شبه آثمة، وعن رغبة عارمة في احتضان الكون بأجمعه، وأحياناً عن فانتازيات وظلال تسكن كهوف النفس. فكان هناك من يصغي إليّ بلا توجس أو إدانة. بل كان هناك من يبادلني بوحًا ببوح، وحكاية بحكاية، وكأسًا بأخرى، وربما دمعة بدمعة أو ضحكة بضحكة. ما أجمل البحارة في موانئهم العابرة!

قد لا نلتقي بالملّاح الذي بُحنا له بكل شيء حميم في حياتنا مرة أخرى. لعلنا في لاوعينا لا نتشجع للبوح إلا لمعرفةٍ دفينةٍ في قرارات نفوسنا بأننا لن نلتقي هذا المسافر المرتحل مرة ثانية. لكننا أحيانًا نلتقي بالملاح مرة أخرى. نلتقيه ونحن نعلم أننا نلتقي بصديق حميم. قد لا نأتي على ذكر ما بُحنا به في أول لقاء، لكننا سندرك دوماً أن ذاك اللقاء الأول كان السر وراء صداقتنا هذه. سنلتقي مرة أخرى ونضحك ونتناقش في أمور كثيرة، لكنّ كل واحدٍ منّا سيحمل حنينه السري الخاص به إلى لقاء الغريبين اللذين كنّاهما ذات يوم، ذات سويعة آفلة، الغريبان اللذان التقيا في حانة ميناء الحياة. ما أجمل الغرباء، ما أجمل حاناتهم وموانئهم!.

تعليق عبر الفيس بوك