أيام في الذاكرة (2)

عبد الله العليان

في فترة دراستنا في مصر في الثمانينيات من القرن الماضي، فكّرنا نحن مجموعة من الطلبة العمانيين، في استغلال الإجازة الدراسية المعتادة في نصف العام خاصة في شهر يناير، لزيارة مدينة الإسماعيلية، وهي إحدى مدن القناة الشهيرة، والتي تقع على بحيرة تسمى بحيرة التمساح، وقد تم بناؤها كما تقول بعض المصادر المصرية، في فترة تولي الخديوي إسماعيل الحكم في مصر، وقد سمعنا عن جمال هذه المدينة من الكثيرين من الزملاء العُمانيين والطلبة العرب، ومن بعض الأصدقاء المصريين، خاصة ازدهارها في فترة الدكتورعبد المنعم عمارة الذي عُين محافظاً للإسماعيلية في عام 1978، واهتم بها اهتمامًا كبيرا في عهده كمحافظ، وجعلها مدينة رائعة نظافة وطبيعة، ومحطة للزوار من مصر وخارجها، وتسمّى في مصر بـ (باريس الشرق)، فذهبنا إلى الإسماعيلية في شهر يناير 1984، وبعضنا كان معه أسرته في هذه الرحلة، وكانت رحلتنا بالسيارات، وفعلاً وجدناها مدينة جميلة، وأكثر جمالاً مما سمعنا، ونزلنا في أحد الفنادق الجميلة على بحيرة التمساح، ومكثنا عدة أيام هناك، وقمنا بزيارات عديدة لبعض الأماكن السياحية والأثرية في المدينة، ولا تزال هذه الزيارة في ذاكرتنا نلتقط الكثير من المواقف الطيبة من هذه المدينة الرائعة، ثمّ فكرنا أن نذهب إلى منطقة المعّدية، لمشاهدة خط بارليف الشهير، وآثار حرب أكتوبر 1973، وذهبنا إلى هناك بإحدى سيارات الأجرة، وتقع المعدّية على بعد ثلاثة كيلومترات عن المدينة، وهي على الضفة الغربية لقناة السويس وكانت مدينة الإسماعيلية من المُدن المصرية التي شهدت حروب 1967، وحرب 1973، وعند وصولنا إلى تلك المنطقة، شاهدنا أعداداً كبيرة من المواطنين المصريين، ينتظرون إحدى المعابر البحرية لتنقلهم إلى الضفة الغربية للقناة، لمشاهدة التحصينات والمواقع الضخمة التي أقامها الإسرائيليون بعد حرب 1967، والساتر الترابي المعروف بخط بارليف المنيع، نسبة إلى رئيس الأركان الإسرائيلي آنذاك "حايين بارليف"، أو كما يسمى في إسرائيل (خط المليار ليرة)، فعندما تشاهد تلك التحصينات المذهلة والموانع الضخمة التي أقيمت لتمنع اختراق القوات المصرية الضفة الشرقية لقناة السويس، ترى فعلا عظمة الجندي العربي المصري وشجاعته وتضحيته، والإيمان العميق بالله وبنصره المبين.

وأتذكر أنني في ذلك اليوم الخالد عام 1973م كنت مع أحد الأصدقاء لزيارة صديق في المستشفى، وعند عودتنا ذهبنا إلى إحدى البقالات التي كنّا نرتادها في مدينة صلالة بشكل دائم ولمحت أحد الزملاء يُدير جهاز الراديو بصورة مربكة وبأعصاب متوترة وعندما رآني قال لي وبنبرة يملؤها الحماس الشديد إنّها الحرب الرابعة لقد سمعت بعد ظهر اليوم خبراً عن قيام حرب بين العرب وإسرائيل وأن اليهود بدأوا بإطلاق النّار على القوات المصرية في منطقة الزعفرانة وقد ردّت القوات المصرية على قصف العدو الإسرائيلي، وأنّ الجبهة الشمالية في الجولان قد اشتعلت هي الأخرى ووقع الخبر عليّ وعلى زميلي كالصاعقة شيء لا يصدق! مفاجأة مذهلة وأسرعت إلى جهاز الراديو وأدارته إلى إذاعة القاهرة فإذا هي في تلك اللحظة تذيع نشرة أخبار الساعة الخامسة مساءً وقرأ المذيع البلاغ الأول عن قيام الحرب والبلاغ الثاني أعلن فيه عبور القوات المصرية لقناة السويس ومن شدة الفرح صفق الحضور بتلقائية فإذا بزميلي يُعلق على الخبر بقوله إننا لا نصدق هذه البلاغات، لقد صدقنا بلاغات حرب 1967م فإذا بنا في نكسة لا يصدقها عقل وانفعلت في وجه زميلي بعبارات قاسية على كلماته التي لا يقصد بها في الحقيقة النيل من الإنجاز العربي في هذه الحرب، وإنما ردة الفعل لهزيمة 67، وبلاغات النصر الوهمية، وتوالت الأحداث بعد ذلك وتحقق الحلم الذي طالما راود الكثير وعبرت الجيوش العربية أكبر مانع مائي في التاريخ، رغم الضجة الإعلامية التي تنذر بالويل والثبور لمجرد التفكير باقتحام القناة وعبور خط بارليف والحرب النفسية لتفوق العدو وأسطورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يقهر، لكن الإيمان بالله وبالنصر من عنده حقق المعجزة وعبر الجنود هذا المانع المائي الحصين ودوت كلمة الله أكبر الله أكبر، واستطاع الجندي العربي أن يثبت للعالم كله خرافة التفوق الإسرائيلي وأسطورة الجندي الذي لا يُقهر بل وقدرته على استيعاب أحدث التكنولوجيا العصرية في الأسلحة وغيرها، إنها مفخرة لأبنائنا وأجيالنا المقبلة لتحكي عن ذلك اليوم الذي لا ينسى وكيف فعل الأبطال وقاتلوا في أشرف المعارك وأشدها عنفاً دفاعاً عن كرامة الأمة العربية والإسلامية. إنّ نصر السادس من أكتوبر سيظل علامة فارقة في حياة أمتنا العربية بين مرحلة .. ومرحلة الفاصل بينهما أزمان في القدرة والمكانة والروح المعنوية.

لقد سقطت فيه (نظرية الأمن الإسرائيلية) التي أقامتها إسرائيل بالعنف تارة، وبالجبروت تارة أخرى، وهذا ما يعطي الدليل القاطع، أن إسرائيل، ليست بذلك العملاق الذي لا يُقهر، بل إنّ ذلك التهويل على قوة إسرائيل، مجرد وهم هدفه الأساسي الحرب النفسية لعدم استعادة الحقوق العربية المشروعة، وهذا ما برز أيضًا في الحرب الإسرائيلية على غزة قبل أشهر مضت، والحرب على المقاومة اللبنانية في2006 أيضًا.. ومدينة الإسماعيلية إحدى المدن التاريخية التي عانت من ويلات الحروب في القرن الماضي، لكن وقفة هذه المدينة مع الجيش العربي المصري، جعلت هذه المدينة ترتفع مكانتها في قلوب الشعب ومحط اهتمامهم وتقديرهم، لأنّها قدمت الكثير من التضحيات من أبنائها، ومن مدنها التي دمر منها الكثير في هذه الحروب، لكن بعد حرب أكتوبر تمت إعادة الروح لهذه المدينة الرائعة، وفي خلال عقد واحد بعد نصر أكتوبر أن تستعيد مكانتها وجمالها وتصبح قبلة للزائرين من كل أنحاء العالم.

تعليق عبر الفيس بوك