الاسم..سلطة من ضوء

رحاب أبو هوشر

كمن يعثر على لقية، تنعم علينا وسائط التكنولوجيا الحديثة، بإتاحتها لنا إمكانية الوصول لكل ما لم يكن ممكناً سماعه أو مشاهدته قبل ذلك، فنستمع لأغنيات قديمة مذهلة، بعضها نادر، ونتعرف على مطربين ومطربات ذوي أصوات وقدرات غنائية استثنائية، لم تنل أعمالهم اهتمام الإذاعات والتلفزيونات الرسمية، لاعتبارات عديدة تخص الإعلام كسلطة قادرة على إدارة وتشكيل الفضاء الاجتماعي والثقافي، بقصر مساحات الضوء على أسماء، وحجبها عن أخرى، أو التعتيم على غيرها أو تجاهل سواها وفرض طوق النسيان عليها، واعتبارات أخرى تتعلق بـ "سلطة الاسم"، الذي يعمل كمقصلة لما عداه من الأسماء، فظل أولئك المطربين والمطربات مغيبين ومهمشين في حياتهم وبعد مماتهم.

لم يتمكن أي من الفنانين الكبار، بإمكانياتهم وقيمتهم الفنية العالية، من الاقتراب من مكانة السيدة "فيروز". وفي كل الأعمال الغنائية والمسرحية المشتركة، لم ينج من سطوة اجتياح اسمها وحضورها أحد منهم، وإن كان بوزن الراحل "وديع الصافي" أو "نصري شمس الدين". ظلوا دائماً بعيدين، على مسافة واضحة من بريق نجوميتها، ولم يتمكن أيّ منهم من منافستها في أيّ لحظة، وحتى الراحلة "صباح"، رغم نجوميتها الكبيرة، إلا أنّها لم تحقق حالة الإجماع التي حققتها "فيروز"، بل وكانت سواء في أعمالها الفنية أو حياتها الشخصية، في موضع المقارنة مع النموذج الكامل، والضوء الذي لا يرحم لفيروز.

السيدة "أم كلثوم"، وعبد الحليم حافظ، محمد عبد الوهاب، أيقونات فنية عربية أيضًا، ستعيش عشرات وربما مئات السنين. ولا يُقلل من القيمة الفنية لأيّ منهم، أو من عظمة منجزهم الإبداعي في الحياة العربية، بل والإنسانية، القول بأنّ ممارسة الإعلام لسلطته، وتسليط ضوئه الكثيف حولهم، حولت اسم كل منهم إلى سلطة، مارست سطوتها، وجعلت مجال الضوء هائلاً، ممنوعًا على مبدعين آخرين اختراقه. حرمتهم من أن يحظوا بمكانة يستحقونها أيضاً، سواء حضورا في وسائل الإعلام، أو في وجدان الناس وأسماعهم.

لقد حرمت سلطة الإعلام التي أنتجت سلطة اسم "أم كلثوم"، أعمالا ذات شأن فني رفيع لأسمهان وليلى مراد وشادية، من أن تكون معروفة وفي متناول تذوق النّاس، كما ظلمتها في نيل حقها النقدي من المُهتمين بالغناء والموسيقى، رغم أنّها أعمال مثلت مغايرة للذائقة الغنائية الشرقية المحافظة، التي كانت شائعة أواسط القرن العشرين. جنحت نحو التجريب في الشكل الموسيقي وأسلوب الغناء، بل وكانت تجديدية بالنسبة لخامة الصوت والمضامين، لم تعرفها أغنيات السيدة "أم كلثوم" الملتزمة بشكل ومفردات موسيقى "التخت الشرقي".

وربما أن نزعة التمرد هذه، ما دفع سلطة الإعلام لممارسة نفوذها، ضد إمكانية حضور أوسع لأولئك المطربات المهمات، بإبقائهن في دائرة التنويع من الصف الثاني، أي في فلك النموذج الغنائي الرسمي المعتمد للسيدة أم كلثوم، وبالتالي كبح جماح نزعة مُبكرة، تصطدم مع سلطة إعلام قادرة على تشكيل الذائقة الموسيقية والغنائية، لجمهور ما زال حتى اليوم، مشدودًا إلى الطرب بوصفه "موسيقى التخت الشرقي"، وما زال يجد صعوبة، وأحياناً نفورا من تذوق أغنية رفيعة جدًا، مثل "دخلت مرة جنينة"، مبتكرة اللحن والتوزيع الموسيقيين، وتكشف مساحات هائلة في صوت أسمهان.

أما ليلى مراد، فإنّ لها جمهور نخبوي، في معظمه من المهتمين بالموسيقى والغناء، ممن يتذوقون جماليات صوتها وألحان أغنياتها المحلقة خارج المزاج الشرقي التقليدي، فالذائقة الشعبية قلما تهضم خامة صوتها ولونها الغنائي، والأهم من هذا، أنّ جرأة الفرح والأنوثة في صوتها، ظلت تتعارض مع مناخ اجتماعي مُحافظ.

وخلف سطوة اسم عبد الحليم حافظ، والضوء الباهر لمطرب صوته عجينة من طبقات الغناء والحساسية الشديدة، مع موهبته الفذة بالتعامل مع الكلمات والألحان، توارت بعيداً في عتمة التجاهل أو الإهمال أصوات صافية وفريدة، قدمت أعمالاً غنائية كبيرة مثل المطرب "كارم محمود" و"محمد عبد المطلب"، اللذين لا يعرفهما اليوم إلا قلة من النّاس.

سلطة الاسم الأول، حولت الفنان الكبير والشهير، ومثله الاسم الكبير في الأدب، إلى وثن مُقدس، فوق النقد والمراجعة. لا يجرؤ أحد على القول بأنّ ثمة أغنية، ضعيفة اللحن أو باهتة الكلمات لأم كلثوم، مع أنّه من البديهي تفاوت الأعمال مهما كانت عبقرية المبدع. ولا يمكن لغيره أن يتحدث عن تعب لوحظ في صوت السيدة "فيروز"، أثناء غنائها في إحدى حفلاتها الأخيرة، إلا ويتعرض لهجوم كاسح من آخرين. هذا كله في الوقت الذي ينتج الفنانون الآخرون، أي من يعدون من الصف الثاني أو الثالث، أعمالاً باهرة في قيمتها الفنية والإبداعية، لكنها لن تنال حظوة نقدية كتلك الجاهزة للأسماء الأولى، كما أنّها لن تزحزح ثبات التصنيفات. إنّها أعمال سيئة الحظ، سيكون مقدراً لها ألا ترقى بأيّ حال، لأعمال عمالقة امتلكوا سلطة الاسم مرة واحدة وإلى الأبد. سلطة ضوء باهر، لا تكف عن ابتلاع أو حرق كل فراشة تقترب من حدودها المتوهجة.



تعليق عبر الفيس بوك