حياة بتفاصيل مختلفة

مدرين المكتومية

"ماذا لو كنا نعيش أكثر من حياة؟ ماذا لو عشنا معا في مكان وزمان آخرين؟ وماذا لو أنّ الحلم حقيقة وفي الحقيقة نحن نعيش الحلم" كانت هذه أهم عبارة وضعت تحتها خطين بالقلم الأحمر لأعود لقراءتها والتمعّن في مفرداتها بشكل أعمق من كونها مجرد سطور على ورقة من رواية "امرأة في مكان آخر" للكاتبة غادة ملحم نعيم، تلك العبارة التي شدتني من الوهلة الأولى وكأنّها تود مني تحليل كل حرف واستيعاب مفهومها العميق والخفي قبل الظاهر منها.

هل صحيح أننا نعيش حياة بتفاصيل مختلفة؟ وهل نحن نعيش وفق ما نريد نحن وماهو متاح لنا؟ أم أننا نعيش تحت تأثير وطأة الإحلام؟.. هل يمكن لأناس أن يمسكوا بتلابيب أحلامنا ويجعلونا نتعثر بهم في واقعنا؟ وهل يمكن أن نرتدي الحياة كما نريد نحن؟ أم أنّ الحياة تجعلنا نرتدي ما تطرزه لنا أحداثها؟ تساؤلات نعيشها عندما نفرغ من كتاب يضم بداخله إجابات لأسئله في غير الزمان والمكان ولربما في غير الحياة التي نحياها.

كنت اعتقد أن الكتاب برغم بساطة طرحه وخفة أسلوبه سيكون من الكتب العادية ولكنّه ربما يلامس جانبا من حياتي البسيطة والتي تتلخص في كون بطلها كاتب مسرحي وكوننا نعيش الحياة بقدر الكتابة. هل للقواسم المشتركة بين أبطال رواية وواقع أحدهم تأثير كبير كالذي أعيش أحداثه الآن؟ ولربما نحن مهووسون بكل ما يكون مشابه لنا وقريب من تفاصيلنا؛ ولاننا نعيش في كثير من الأحيان بخيالات فوق العادة وننسجها لأنفسنا ونسافر بها إلى ما خلف التخوم البعيدة، نجد أن تفاصيل صغيرة من شأنها أن تشعل فتيل التفكير في داخلنا وتلهبنا لنكتب عنه أو نعيشه وإن كان ذلك خارج الأطر القانونية للمجتمع. فكم من المرات مارسنا الكذب البريء لنتجاوز به نظرة المجتمع ونمارس طقوسنا التي نحب، وكم من المرات التي عمدنا فيها على ارتكاب جرم يظنه المجتمع ولكننا نجده يندرج تحت مفهوم التجربة. فكما أنّ للمجتمع قانونا يحكمنا به، فإن هناك قوانين ومفاهيم جديدة تبنيناها نحن؛ وكما أنّ لكل شخص لغته الخاصة في التعبير عن نفسه فإنّ للكاتب لغته أيضًا.

حين كانت تكتب غادة؛ كانت تخوض تجربة استثنائية وجريئة كانت تنتقل بالكلمة من بلد لآخر وتفتش عن وجوه وأرواح عاشوا داخلها وسطرتهم أبطالا لروايتها، وكان للزمن والمكان النصيب الأكبر من الكتاب، وقد كانت الأحداث متلاحقة بحيث إنّ القارئ لا يمل من الاستمرار في القراءة، بما يحويه من التشويق، وقد لايشاطرني الكثيرون الرأي إلا أنني وجدت الكاتبة قد اهتمت بأدق تفاصيل الجمال في المرأة وإبراز أنوثتها، كانت تعي احتياجات المرأة، وبتأثير القهوة، وبالانتظار لساعات بحثا عن وجه أحدهم وسط الزحام. استطاعت أن تنبش قلب رجل مرت عليه الكثير من الوجوه ويكاد عمره مرهونا بعدد النساء اللاتي مررن بحياته حين تأتي واحدة وكأن القدر ينتقم بها من كل اللاتي سبقنها؛ فتكون كل شيء وتكون خاتمة لكل من مررن بعالمه، وتظل هي الأنثى الاستثنائية في غير الزمان والمكان والتي جاءت من البعيد وبدون ميعاد لتكون كل المواعيد القادمة والجميلة، وصاحبة الأماكن والانتظارات والمقاهي البعيدة، ورفيقة فناجيل القهوة وخربشات الكتابة.. هي القدر الذي لا مفر منه، يهرب من وجهها ليصطدم به في الطرف الآخر، ويبحث عن غيابها في حضورها ويكتب لأجلها سطورًا ويعود ليمحوها خوفًا من ألا تفي حقها.

ذلك الرجل الذي صنعته هي بمحض إرادتها مر على الكثيرات ومرت عربات الزمن عليه ولكنه لبرهة عاد للوراء كطفل وجد ملهاة أضاعها ففرح بها، واندفع للحفاظ عليها والتمسّك بها، وكأنّه يعود للبداية ليختار النهاية بنفسه.

غادة تثبت الواقع بحلم والحلم بواقع فكأنها تخبرنا أننا قد نتعثر يوما ما بشخص التقيناه في حلم والصدفة دفعت به في طريق واقعنا. فكم من أشخاص مروا علينا بأزمنة لا نذكرها ولا نعلمها ولكننا شاهدناهم في مكان ما ونردد بيننا وبين أنفسنا إنني "أعرفها، أعرفه ولكن لا أدري متى وأين وكيف؟ فلربما رأيناهم في أحد أحلامنا الكثيرة والمتزاحمة أو ربما في أكثر من حياة .

madreen@alroya.info

تعليق عبر الفيس بوك