الإسماعيليون وإخوان الصفاء

صالح البلوشي

لعبت الطائفة الإسماعيلية دورا خطيرا جدا في الحياة السياسية في القرن الثاني وما بعده، واستطاعت أن تحكم بقعةً كبيرةً من الأراضي الإسلاميّة، تمتد من الشام والمغرب إلى مصر، إضافة إلى اليمن والبحرين وغيرها. وبعيدًا عن الدور السياسي، فقد لعب الإسماعيليون دورًا كبيرًا في الحياة الفكرية في تلك الفترة الذهبية من تاريخ الفكر الإسلامي، وقدموا للثقافة الإسلامية الكثير من النوابغ في الحقول المعرفية المختلفة، مثل: الفقه والأصول والعقيدة، والفلسفة، وغيرها، مثل: الداعية حميد الدين الكرماني (ت411) الذي كان له شأن كبير في التنظير للفكر الإسماعيلي، ومن أشهر كتبه "راحة العقل"، وهبة الدين الشيرازي (ت470)، والقاضي النعمان بن حيون المغربي (ت 363)، وأبو يعقوب السجستاني (ت331) وغيرهم.

وينسب كثير من علماء ومفكري الإسماعيلية المعاصرين رسائل "إخوان الصفاء وخلان الوفاء" إلى الإسماعيلية، وأشهر من حمل لواء هذه الدعوى من المعاصرين الدكتور عارف تامر (1921 - 1998) في بعض كتبه، والدكتور مصطفى غالب (1923 - 1981) في كتابه "تاريخ الدعوة الإسماعيلية".

ويؤكد المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه: "تكوين العقل العربي" على إسماعيلية هذه الرسائل، ويرى أنّها جاءت كردة فعل شيعي إسماعيلي على استراتيجية الخليفة المأمون العباسي في احتضان الفلسفة اليونانيّة ومشروعه الفكري في ترجمة التراث الفلسفي اليوناني إلى اللغة العربية، حيث يقول ص 231: "إنّ المصادر الشيعية تؤكد أنّ "تأليف رسائل إخوان الصفا هو رد الفعل الشيعي الإسماعيلي ضد هذا الجانب من استراتيجية المأمون الثقافية، وعلى هذا تكون رسائل إخوان الصفا التي أبرزنا في الفصل السابق طابعها الهرمسي اللاعقلي هو الجواب الشيعي الإسماعيلي على لجوء المأمون إلى العقل الكوني "اليوناني". واستند الجابري في كلامه على مصادر إسماعيلية مثل: كتاب "عيون الأخبار" للداعية الإسماعيلي اليمني إدريس عماد الدين (المتوفي سنة 872)، حيث ادعى أنّ كاتب الرسائل هو أحمد التقي بن عبدالله بن محمد بن أسماعيل بن جعفر الصادق؛ بسبب سعي الخليفة المأمون العباسي إلى ترجمة كتب الفلسفة وإدخالها إلى ديار المسلمين "فخشى الإمام أن يميل الناس إلى زخرف المأمون عن شريعة جده فألف رسائل إخوان الصفا، الرسائل التي ألفها الإمام وقد جمع فيها أنواع العلوم الفلسفية والهندسية وجعل "الجامعة" هي منها الغاية التي يتبين منها المراد ويتضح المعنى للمرتاد وقصرها على خلصاء شيعته وخيرة خاصته، وإنّما ألف الإمام أحمد تلك الرسائل لتقوم الحجة على المأمون وأتباعه حين انحرفوا عن علم النبوة"،ولكن كثيرًا من الباحثين في الفكر الإسماعيلي يشككون في مصداقية هذا الكتاب التاريخية، فالمفكر المصري محمد كامل حسين -مثلا- وهو من المتخصصين في الدراسات الإسماعيلية يشكك في كتابه "طائفة الإسماعيلية" في هذا الكتاب ويقول "بأنّه يخلط كثيرًا في الأسماء وأنّ كثيرًا من الأسماء التي يذكرها تختلف عن الأسماء الذين وردوا في المصادر الإسماعيلية الأخرى"، كما أنه وقع في أخطاء تاريخية كبيرة منها كما يقول في ص 18 من الكتاب: إنّ "الداعي المنصور بن حوشب أنّه كان صاحب قلعة نهاوند حوالي سنة 169 للهجرة، مع أن ابن حوشب كان من رجال القرن الثالث وليس من رجال القرن الثاني، ومسألة دخول الإمام استنبول ووفاته بها تدعو إلى الدهشة؛ لأنّ استنبول في هذه الأيام لم تكن من البلاد الإسلاميّة إنما كانت عاصمة الامبراطورية البيزنطيّة التي كانت في حروب مستمرة مع المسلمين وغير ذلك من أخطاء وقع فيها المؤلف، شأنه في ذلك شأن كل مؤرخي الإسماعيلية الذين تركوا لنا كتبا يصعب جدا الاعتماد عليها؛ لكثرة ما فيها من اختلافات وأخطاء تاريخية".

وبالإضافة إلى هذا الكتاب أستند الجابري إلى شاهد آخر وهو رسالة "المذهبة" للفقيّه الإسماعيلي الكبير النعمان بن حيون المغربي، حيث يقول في كتابه: "تكوين العقل العربي" ص 232 ما نصّه "على أن أقدم مصدر إسماعيلي متوفر حتى الآن يؤكد الجانب التاريخي من الرواية المذكورة هو القاضي النعمان بن حيون المغربي التميمي قاضي القضاة في الدولة الفاطمية والمتوفي سنة 363، الذي يذكر في "الرسالة المذهبة" (ص 72): "أنّ الأئمة المستورين وهم عبدالله وأحمد والحسين والدعاة الأربعة مؤلفو رسائل إخوان الصفا، وهم: عبدالله بن حمدان، وعبدالله بن سعيد، وعبدالله بن ميمون، وعبدالله بن المبارك.. " بينما ينفي المفكر السوري جورج طرابيشي في كتابه "العقل المستقيل في الإسلام" إسماعيلية هذه الرسائل وهرمسيتها؛ ويرى أنها تمثل منظومة عقلانية، ويرد على حجج الجابري في دعواه بإسماعيلية هذه الرسائل بأنّه "استند على شاهد ملفق وليس الجابري من لفقه بل صاحب المصدر الذي ينقل عنه" والذي هو الباحث الإسماعيلي عارف تامر في مقدمته لكتاب "جامعة الجامعة"، وقصة ذلك أنّ النص الأصلي للنص كما جاء ذلك في رسالة "المذهبة" للنعمان بن حيون المغربي الصفحة رقم 72 التي نشرت بتحقيق عارف تامر نفسه يقول: "وسألت عن معنى قول الصادق صلوات الله عليه: تمام أمرنا بسبعة.. ثلاثة منا وأربعة من غيرنا فالثلاثة هم ولده وولد ولده والأربعة من غيرنا أراد من غير عصره ومن غير ذريته وهم: (الأحدث) و(المختلس ) و(أخا المختلس) و(القداح) وهم المتمون عليهم السلام"ويعلق محقق الرسالة المذكورة وهو الأستاذ عارف تامر في هامش تلك الصفحة ما نصه: "هؤلاء الأربعة هم الدعاة الحرم" الذين ورد ذكرهم برسالة الأصول والأحكام وهم بالتحقيق واضعي رسائل إخوان الصفاء فالأول: هو (عبدالله بن المبارك) والثاني: (عبدالله بن حمدان) والثالث: (عبدالله بن سعيد) والرابع: (عبدالله بن ميمون القداح)".

ولكن الجابري أحال في كتابه إلى رسالة القاضي النعمان بن حيون مباشرة وبالصفحة أيضا، ولكنه في الهامش أحال القارئ إلى مقدمة الأستاذ عارف تامر لكتاب "رسالة جامعة الجامعة " لأخوان الصفا ص 11 - 14 منشورات دار الحياة بيروت 1970.

بقي -أخيرا- البحث في البنية المعرفيّة لهذه الرسائل، فالجابري يرى في كتابه "تكوين العقل العربي" أنّها تمثل منظومة هرمسيّة كاملة؟ بينما يحاول جورج طرابيشي في كتابه "العقل المستقيل في الإسلام" إثبات عقلانيتها"، وحتى يظهر مفكر أو باحث يستطيع أبستمولوجيّا وتاريخيا أن يؤكد الصلة بين إخوان الصفاء وبين الإسماعيلية أو نفي ذلك، فإنّ هناك من يرى أن رواية أبو حيان التوحيدي التي تكشف عن "الأسماء الحقيقية" لهذه الجماعة وتنفي الصلة بينها وبين الإسماعيلية تظل الرواية الموثقة في هذا الموضوع، وتظل دراسات الجابري وطرابيشي وغيرهما مثار جدل ونقاش بين الباحثين.

تعليق عبر الفيس بوك