نقطة ارتكاز

أمل السعيدية

كم هو رائع أن تمتلك نقطة ارتكاز تعود إليها، لتتمكن بعدها من توزيع نفسك في طرقات الحياة مرة ثانية. لأن هذه الطرقات سرعان ما تصبح متعبة وتتسبب في إنهاكك، وعلى الرغم من أنك تنسى أنّ ثمة طريقة للعودة، إلا أنّ نقطة ارتكازك تحافظ لك على هذه الميزة، بل وتربيها لك، حتى لا تخذلك عندما تعود. اعرف جيداً كم هي الحياة صاخبة، مميتة، وكيف أنّها ليست اقتصادية في تحطيمنا بين الفينة والأخرى. كما أعرف أنّ لكل منا مركزه الذي يعول عليه، النقطة التي يمد منها الحبل إلى أي مكان يذهب إليه، إلى أي دور يلعبه. وأنا افكر الآن بينما أفوت محاضرة الإعداد لدورة الآيلتس التي دفعت لقائها مبلغاً ليس صغيراً بالنسبة لأوضاعي المادية، في نقطة ارتكازي. كنتُ بين وقت وآخر اعتقد أنني تجاوزت فيروز كمغنية، لكنّها ما زالت حتى اليوم الشيء الذي لا أنفك العودة إليه ببداهة. من منّا لا يعرف فيروز؟ جاء وقت أحببتُ فيه أختها هدى حداد، لكنني مازلت أعود إلى فيروز، والغريب أنّ هذا يحدث مصادفة في كل مرة، أكون في حالة يرثى لها، ثمّ ما تلبث أغنية لفيروز أن تبث الروح فيّ مجدداً. وأن ترتب الحياة في داخلي، كما لو أنّ قلبي رف قديم يجوز له أن يصاب بالغبار لكن لا يجوز أن تأكله حشرة العتة.

سمعت قبل قليل فيروز وهي تغني "بعدك على بالي" بذلك الصوت الأشبه بوردة لا تريد أن تتفتح كاملة حتى لا تذبل، لكنني سرعان ما أفكر أن صوتها هو لحظة التفتح، لحظة خروج الشذى إلى هذا العالم. في عيد ميلادها الثمانين، شاهدت فيلماً وثائقياً عنها، تحدثت فيه عن علاقتها بزوجها، كيف أنه منعها مراراً من الحديث إلى الجمهور قائلاً لها إن مهمتها هي أن تغني. لعلني إذن بين كل الأشياء التي أقوم بها في حياتي تعبيراً عن ضجري وتعبي، مهمتي هي أن استمع في هذا الوقت على وجه التحديد لفيروز ولا داعي للكتابة عن هذا الضجر ولا للصراخ.

أعرف أنّ قارئاً يبحث عن كاتب يثير قضية هامة في هذه الزاوية من الجريدة الآن، وربما سيصبح ساخطاً لأنني أعيش في برج عاجي بعيداً عن مشاكل النّاس وهمومهم، لكنني في الوقت ذاته ممتنة لأنني وعلى الرغم من هذه الإشكاليات الكثيرة التي تقسمني وتتعب كاهلي إلا إنني مازلت أسمع لصوت هذا الداخل الذي لا يموت فيّ. هذا الذي يتسخ، ويرغب في أن ينفض نفسه، مثلما تفعل أم قروية في عمان عندما تنفض الحصير بعد يومٍ طويل من اللقاءات مع جيرانها. مرة تعرفت على كاتب فلسطيني عبر متابعة مقالاته التي يكتب فيها عن غزة المحاصرة، لكنني فوجئت بعد البحث عن هذا الكاتب، بكتاباته عن شعوره بالسأم، بالتعب، بكراهيته لعمله، بكراهيته لفيلم (عمر) الفلسطيني، بكراهيته لأكلة بعينها، كان هذا الكاتب محاصراً لكنه مازال يقظاً لكل شيء يحبه ويكرهه، مازالت لديه مساحة للتعبير عن موقفه من هذا الوجود. إنّ هذه الروح التي أحملها والتي يخيل لي أنها ورقة منسية في دفتر قديم، تعود إليّ فيروز لتعيد نفسها إلى أول السطر.

بمناسبة الحديث عن أهمية نقاط الارتكاز وفي إعلاني لنقطة ارتكازي "فيروز" فأتذكر اقتباساً قرأته في رواية للكاتب السعودي محمد حسن علوان لا أذكر عنوانها الآن لأنني قرأتها قبل ثلاث سنوات لكنني ما زلت احتفط بالاقتباس في دفتر مذكراتي "هي تحب محمد عبده كما تحب المطر والغيوم، وأتذكر دائماً مقالها في الجريدة فيه العبارة التي دفعتني مرة أن أهدي إليها مجموعته الموسيقية الكاملة. وعليها توقيعه شخصياً" أغنياته أثرت في تشكيل السلوكيات الرومانسيّة لجيل كامل من البلد، مدرسة ثقافية كبيرة من الغناء لأجل الحب والوطن. ولهذا لونت كل حبنا بأغنياته حتى لم يبق لنا ذكرى لم يشاركنا فيها هذا الرجل، ويقتسم معنا كل الوقت الحميم، وكل اللحظات الخاصة، ولذلك صرت أؤرخ زماننا بصوته، وأربط الموقف بالأغنية، والأحزان بالألحان"، إن ما أفعله هو أنني أنجو كل مرة بصوت فيروز، وعندما تستكين نفسي إلى حدسها في أغنيتها "رح نبقى سوى"، أرعى أيامي كما عليّ أن أفعل.

تعليق عبر الفيس بوك