الموسيقى العراقية بدار الأوبرا السلطانية.. ميثولوجيا تراجيدية آسرة تجسّد حضارات بلاد الرافدين

تحمل عبق "الموصلي" و "زرياب " و "مكتبة الحكمة"

- المدرسة العراقيّة أخرجت العود من حيّز "المصاحبة" الموسيقيّة إلى رحابات "الصولو"

د. ناصر بن حمد الطائي

اختتمت دار الأوبرا لسلطانية مسقط يوم السبت الماضي حفلها المتميز عن الموسيقى العراقية، بمشاركة الفنانة بيدر البصري والأستاذ الفنان حسين الأعظمي وحضور جمهور غفير من الجالية العراقية والجاليات العربية الأخرى.

وللحضور العراقي دائماً ثقل فني وثقافي يرمز إلى عراقة بلاد الرافدين وعمق ثقافتها وخصائص فنونها الموسيقية.. هذه الثقافة التي تحمل معها عبق "الموصلي" و "زرياب " و "مكتبة الحكمة" وتعكس مرآتها حضارات بابل والسامراء ونينوى. وموسيقياً تميز العراق بموسيقى المقام العراقي الفريد والذي كان له تأثير كبير على موسيقى الأندلس ومنها إلى أوروبا حيث شكلت هجرة زرياب في القرن التاسع بداية مرحلة فنية هامة في التاريخ الإنساني.

ولكن للعراق أيضاً سمة الحزن والفراق والذي يتمثل في تاريخه العصيب، الرافض والثائر على التقاليد والذي جعل من بلاد الرافدين مبتغى للأطماع العالمية فكانت غزوات التتار وهولاكو المسعورة وجاءت الحروب المدمرة ناشرة قنابل الموت والطائفية والدمار.

كل هذه المشاعر تختلط في الذاكرة عند سماع المواويل العراقية والتي يصفها الجميع بالموغله في الحزن والكآبه حتى كانت أحد الصفات الرئيسية للموسيقى العراقية. ولكن الموسيقى العراقية تحتوي على كنوز في الآلات الموسيقية والأشكال والقوالب الفنية الفريدة والتي ظلت تميزها على موسيقى الجوار.

المقام العراقي

هناك من يرجع أصول المقام العراقي إلى عصر البابليين مستندين إلى آثار ومنحوتات قديمة ولكن من البديهيات أن أي موروث كان يتكون من خلال تراكم التجارب للحقب الزمنية والأجيال المتعاقبة. والمقام العراقي هو الوريث لتراكم الألحان والأنغام وجميع الأنماط الغنائية التي تكونت وتطورت عبر مراحل التاريخ، وهو نتاج مدرسة ثرية ومتعددة الثقافات لذا فالمقام العراقي هو الامتداد الطبيعي لكل التراث الفني والموسيقي منذ فجر السلالات مرورًا بالعصر الأموي والعباسي. ووجود مفردات أعجمية وفارسية أو تركية يدل على امتزاج النمط وتأثره بحضارات اخرى.

في العراق يحمل المقام مفهوماً مغايراً للسلم الموسيقي والنغمات الموسقية الشرقية حيث يعد شكلا فنيا موسيقيا يشابه " الارتجال الأدائي" من حيث تعدديته. ويأخذ المقام العراقي شكل المثالية المتكامل حيث يشكل الإطار اللحني والنغمي بناء يجمع بين الارتجال والموسيقى الآلية والغناء.

ويلعب الغناء الفردي في المقام العراقي دوراً بارزا يدل على قوة التحكم بعلامات المقام في الغناء والتركيز على القصيدة والصوت الإنساني مروراً من نغمة القرار والركوز إلى "التحرير" و "التسليم" إلى "الرجوع" إلى "درجات القرار". ويغذي هذه الرحلة الموسيقية وصلات موسيقية ثرية تعكس الثراء النغمي والإيقاعي للموسيقى العراقية وتعطي القالب الموسيقي طابعاً جمالياً يثير المشاعر ويقود إلى النشوة الطربية.

وتتميز الموسيقى العراقية أيضاً بوجود مقامات موسيقية فريدة وغير موجودة في الموسيقى الشرقية كمقام "اللامي"، على سبيل المثال، والذي لعب الفنان محمد القبنجي دوراً ريادياً في الثلاثينيات للتعريف به لباقي الدول العربية من خلال مؤتمر القاهرة الشهير في 1932م حيث تأثر به الفنان محمد عبدالوهاب وكتب على أثره "ياللي زرعتوا البرتقال" على نفس المقام. وهكذا تشكل المقامات العراقية عظمة الإبداع الفني لبلاد الرافدين مع ارتباطها الوثيق بالموسيقى الشرقية والمبنية على قواعد المقام الموسيقي والإيقاعات الثرية.

مدرسة العود العراقية

من هذا المنطلق جاء حفل الموسيقى العراقية متكاملاً من الناحية الفنية. حيث بدأ بارتجال على العود للفنان خالد محمد علي تلاه "سماعي" جهاركاه. وللعراق مدرسة خاصة في العزف على العود تجلت في الخط الفريد الذي رسمه عمر ومنير بشير حيث أعطوا للعود مدرسة خاصة كآلة موسيقية بارزة "للصولو" وأخرجوا الآلة من حيز "المصاحبة" الموسيقية الضيّق. وجاءت كتاباتهم الموسيقية المؤلفة جامعة للارتجال والصور الوصفية والانتقال نحو إطار "مبرمج" لموسيقى العراق.

وظهر التأثير الواضح لمنير بشير، والذي تأثر بدوره بمدرسة الشريف محيي الدين حيدر وتميز أسلوبه بالطابع التأملي الروحاني، من خلال ارتجالات طويلة تمزج بين المقامات العربية والتركية والبابلية والهندية. ومن هنا تأتي مدرسة منير بشير كمنارة يستقي منها عازفو العود العراقيين منابع الإلهام الشعرية تحمل في طياتها أسفارا وتاريخا فنيًا كما في "جذور الفلامنكو" لمنير بشير و"أرض السّواد" و "رحلة الأرواح" لنصير شمه و"صداقة" لرحيم الحاج. تسافر هذه الأعمال عبر تقاليد ثقافية وتنتقل بين حضارات مختلفة مبنية على المخزون "الآشوري" و "البابلي" رابطة بين الحضارات في قالب فني مبدع ومضيفة عُمقاً درامياً من خلال الجمع بين عدّة تقاسيم في عمل واحد مُطعًم بزخارف وألحان مستمدة من التقاليد الفولكلورية العربية الثرية.

تلا "السماعي" وصلة للفنانة الشابة بيدر البصري والتي اكتسبت خبرة في غناء مختلف الألوان العراقية من خلال أعمال من تأليف الباحث والمؤلف للموسيقى د.حميد خلف (البصري). وبالرغم من المواويل ذات الشجن العراقي، إلا أنّ صغر سن بيرق ومحدودية لونها واهتمامها بالموسيقى المعاصرة وأسلوب "الفيديو كليب" السريع جعلها غير قادرة على التأقلم على الغناء من خشبة دار الأوبرا السلطانية مسقط حيث جاءت الآلات الغربية ( كلارينيت - جيتار - والبيانو) خارجة عن الإطار الطربي العربي محدثة نشازاً بارزاً في الأمسية العراقية بالرغم من تميز أعضاء الفرقة على القانون والوتريات.

وبعد الاستراحة ابتدأت الأمسية العراقية الأصيلة بموسيقى مقام "الخنبات" و "البنجكاه" وعزف على آلة الجوزة مع إيقاع عراقي. وأضافت فرقة حسين الأعظمي لوناً أصيلاً على الوصلة الموسيقية حيث برزت آلة الجوزة والسنطور والإيقاعات العراقية بالإضافة إلى باقي أعضاء الفرقة الشرقيّة التي تبادلت مع الفنان الأعظمي سجالاً فنياً روحانياً حكمه الوقت الضيّق ولكنه أدخل الجمهور في عالم طربي حالم.

وكانت ذروة الأمسية في وصلة "فراقهم بكاني" من مقام "الجمّال" تضمنت قصيدة لصفي الدين الحلي والتي يقول مطلعها:

قالت كحلت الجفون بالوسن

قلت: ارتقابا لطيفك الحسن

قالت شاغلت عن حبنا

قلت، بفرط البكاء والحزن

قالت تناسيت قلت: عافيت

قالت، تناءيت قلت: عن وطني

هنا يبرز الحزن العراقي بكل تاريخه وأمجاده وأشجانه فاشتعلت الشجون في القاعة وبدأت الجماهير العراقية في البكاء شوقاً ولوعة على فراق الوطن والأحبة. وبدا جلياً دور الفنون السامية في ترسيخ لوحات إنسانيّة مركّزة تبعث الحنين والشجن وتربط بين الناس في ملحمة غنائية دافئة مؤكدة على الرباط العميق الذي يكنه العُمانيين لإخوانهم العراقيين في غربتهم مادين لهم يد المحبة والوفاء والسلام.

الموسيقا.. لغة الإنسانية

مرة أخرى، تتجلى الرسالة السامية للفنون فوحدها هي الموسيقى القادرة على كسر الحواجز وتعدي الخلافات حيث الكلمة الأولى والأخيرة دائماً ما تكون للموسيقى.. هذه اللغة الإنسانية الخلاقة التي تحرك مشاعرنا وتعطي للحياة معنى وأملا وتنشر مبادئ المحبة والسلام على العالم أجمع.

تركنا دار الأوبرا السلطانية محملين بمشاعر الحب والحنين والإشتياق للماضي الجميل.. تذكرنا "أنشودة المطر" للسياب وأغاني الغزل لناظم الغزالي.. لقد رحل الفلاسفة والفنانين والعلماء عن العراق ولكن يبقى الوطن صامداً وأبياً.. وتبقى أسطورة الحزن والإبداع التي نذكرها كلما سقط المطر على سنابل الحياة وفي كل ربيع يزهر فيه الورد باعثا الأمل لمستقبل أفضل.

تعليق عبر الفيس بوك