القِشَّاط

زينب بنت محمد الغريبية

جاء أخي من صلالة، يحملُ لي لفةً كهدية، قال لي: أحضرت لك شيئًا مما كنتِ تُحبينَه في السابق، وسأذكرك بأيامٍ خوالٍ عزيزةٍ على قلبك، كُنت متلهفة لفتح اللفة، أخي أبو الهثيم يصغرني بعامين عشنا ثنائيًا طفولياً في حياتنا تجمعنا ذكريات كثيرة، تشاطرنا فيها أشياءً كثيرة كنّا نُحبها، كان يعلم ما أُحبه وما أكرهه، أحضر لي اللفة، وكان متشوقاً لرؤيتي وأنا أفتحها، فإذا بـ"القِشَّاط" تلك الحلويات الظفارية التي كنّا نُحبها كأفضل حلويات في صغرنا، وعند حصول أحدنا على قطعة منها يجب أن نقتسمها حتى ولو حصل كل منّا على قطعة صغيرة منها بعد القسمة.

عند رؤيتي لـ "القشَّاط" استعدت ذكريات كل تلك الأيام، تذكرت أيام المدرسة حيثُ كُنّا نجمع البيسة فوق البيسة حتى نشتري قطعة "قشّاط" من عاملة النظافة العجوز التي تعمل بالمدرسة وتقوم ببيع بعض الأشياء في نهاية الدوام المدرسي أمام باب المدرسة، وكأني عُدت لتلك الأيام وكنت كالطفلة التي تلتهم "القشّاط" دون اعتبار للسعرات الحرارية التي تحملها.

"القشّاط" أكلة حلوى تصنعها النساء في ظفار، ولا يتقنها الجميع، تحتوي تكوينتها الأصلية على السكر الأحمر وجوز الهند وعدة أشياء أخرى تجعل منها متماسكة وصلبة يتم تشكيلها كمكعب صغير، وأنا آكلها جال في بالي قائمة من الأكلات الشعبية التي توجد في بلادنا، وكم نحبها ونشتاق لها، ولكنها ستندثر مع من كان يُتقنها، فلن تعود بذاك الطعم الأصلي إلا من عدة أشخاص، وحين يرحلون ترحل معهم، وذلك لأنّه لا امتداد لأشيائنا الشعبية.

عندما تُسافر لدول عربية وغير عربية، نرى كم تقوم صناعات على حلويات شعبية يحافظون فيها على الطعم الأصلي للأكلة، يستمتع بها أبناء البلد، كما يستمتع بها السائحون ويحملونها كهدايا بكميات كبيرة وتكون سمة من سمات تلك الدولة، ونحن كأننا لا نملك سوى الحلوى العمانية المعروفة كحلوى، والرز كأكلة شعبية، رغم احتواء المطبخ العُماني على اختلاف المناطق العديد من الأطباق الرائعة التي تلهف لها قلوب أبناء البلاد وستجذب السائحين، فالمطبخ العُماني غني بالكثير من الأكلات الشعبية المُهدرة التي سيختفي طعمها الأصلي مع رحيل من يتقنونها، وعند فتحنا لمطاعم من الممكن أن يُقدم فيها نوعان أو ثلاثة من الأكلات الشعبية يقوم بطهيها عمالة آسيوية لم تتلق التدريب الكافي على إتقان الطعم الأصلي للطبق، من منطلق "كله في يمشي" لا لن يمشي، ولن يجد ذاك الرواج، ولن نُحافظ بها على تراثنا الغذائي، ونظل نشتاق له، وتدمع أعيينا عندما نحصل عليه، ولن يعرفه من يأتي بعدنا.

هذه الأغذية من المُمكن أن تقوم عليها صناعات غذائية وتوفر فرص عمل لأعداد كبيرة ممن يتقنونها ويقومون بتدريب آخرين، ومن المُمكن تصدريها للسوق المحلية والخارجية، منها نحافظ على وجود تراثنا الغذائي واستمراره، وأوجدنا فرص عمل لكثيرين ممن يستهويهم الطبخ والصناعات الغذائية من المواطنين، وأسهمنا في تلبية حاجة من حاجات السوق المحلية وساهمنا في الدخل الوطني للبلاد، ولن نعود حينها لاشتياق وجبة أو حلوى تذوقناها في صغرنا، وتدمع أعيننا عندما نراها كبارا.

لا أُريد أن أودع القشّاط ولا الساقو ولا الخبيصة ولا سلطة السيداف أو الفرفرينا أو المزروتة، ولا الثريد والهريس والعصيدة والسحناة، ولا غيرها الكثير والكثير من الأغذية التي ربما لا أعرف بعضها لأنّ من سبقونا رحلوا ورحلت معهم دون أن تأتي أجيال تحافظ عليها وتبقيها صامدة تحمل معها سمة عُمان، بأنّ هذا هو المطبخ العماني الثري، كما خرجت لنا وجبات الدجاج الأمريكية، والبيتزا والمعكرونة الإيطاليتين، والشوكلاته الفرنسية، والتبولة اللبنانية، والشوارما التركية، والكاري الهندي، والسوشي الياباني، وغيرها الكثير من تراث دول وشعوب، وكلها نأكلها متقنة فقد صُدرت لنا بخلطاتها الأصلية وتمّ تدريب الطهاة عليها، وتلقى رواجاً كبيرًا داخل بلدانها وفي العالم كافة، بسبب الاهتمام بها، وجعلها صناعة أساسية، لتنشر ثقافة البلد إلى العالم، ولتحقق عائدا اقتصاديا.

لما لا يهتم رجال الأعمال والتجار بهذه القضية، ولما لا يهتم أصحاب المهارات في طهي بعضها بالتحرك والبداية وسينمون حتمًا، لما يلاقي هذا الجانب المهم إهمالاً من الجميع؟ لماذا لا تشجع الحكومة على مثل هذه المشاريع وتقدم مُحفزات لمن يهتم بها من أجل الحفاظ على التراث الغذائي؟ لما لا نعتبر الصناعات الغذائية أحد مصادر الدخل التي نبحث عنها الآن؟ ماذا ننتظر؟ أننتظر اندثارها؟ ورحيل كل من له صلة بها؟ أننتظر أن نبقى بلا تراث غذائي يصنع لنا فخراً بالمطبخ العماني الثري؟ أم أننا ننتظر من يوقظنا من السبات حتى نعي أنا لنا تراثاً يجب أن نُحييه، أو أنّه سيؤخذ منِّا..

"القشِّاط" أكلته بكل مُتعةٍ وتلذذٍ، وسعادة باستعادة شيء افتقدته لسنوات، ولكنه أثار بداخلي شجوناً مزقت كل تلك السعادة، أوقفتني على معنى العجز الذي نعاني منه، ويقف أمامنا في كثير من الأشياء في حياتنا، فنشعر أننا نفقد أنفسنا شيئاً فشيئاً.

Zainab_algharibi@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك