أغلى مكالمة هاتفية

عيسى بن علي الرواحي
كان صديقًا مخلصًا وأخًا عزيزًا وفيًا يوم كُنت وإياه زميلين مغتربين في دوحة الخير قبل أحد عشر عامًا تقريبًا، ولا أعرف كيف انجذبت نفسي إلى هذا الزميل العزيز خلال فترة وجيزة جدًا رغم أنّه لم يسبق لي صداقة بمعناها الحقيقي مع شخص من خارج وطني، ورغم أنّه يكبرني سناً بأعوام، ولكن صدق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما يقول: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ، مَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ. "
كان حسه الديني، وتعاونه الأخوي في العمل، وصدق حديثه الرائع الذي لا يُمل، وتفانيه في التدريس، وحرصه على الحضور باكرًا، وترفُعه عن أحاديث المذهبيات والقوميات والترهات المعلومة، ومقته للأقاويل الفارغة وسفاسف القول، وابتسامته الصادقة، ومرحه المُتزن، وغير ذلك من فضائل الأخلاق ومحاسنها هي ما جعلتني أحرص أشد الحرص على اكتساب صداقته والقُرب منه، وصدق الرسول _صلى الله عليه وسلم_ إذ يقول: " إِنَّمَا مَثَلُ الجليس الصالحُ والجليسُ السوءِ كحامِلِ المسك، ونافخِ الكِيْرِ فحاملُ المسك: إِما أن يُحْذِيَكَ، وإِما أن تبتاع منه، وإِمَّا أن تجِدَ منه ريحًا طيِّبة، ونافخُ الكير: إِما أن يَحرقَ ثِيَابَكَ، وإِما أن تجد منه ريحًا خبيثَة ."
ورغم أنّ زمالتنا في المدرسة لم تستمر أكثر من عام، فإنّ العلاقة كانت تزداد ترابطًا وتواصلاً، وصارت الزيارات بيننا على مستوى الأُسر، وكان السؤال والاطمئنان على الآخر، كسؤال الأخ عن أخيه، بل كان كثيرًا ما يقول:" أنت هنا لي أكثر من أخي البعيد" وفي إجازة الصيف كان التواصل بيننا مستمرًا، مؤملاً نفسي في كل إجازة صيفية أن أزوره في دمشق التأريخ والمجد وأن يزورني في سمائل العلماء والشعراء بيد أنّ اﻷمل لم يتحقق بعد، وإن كان لي أن أنسى فلست أنسى أجمل هدية أهداني إياها وهي كتاب (يغالطونك إذ يقولون) لفضيلة الشيخ الشهيد الدكتور محمد بن سعيد بن رمضان البوطي الذي دحر فيه بالحجة والبرهان وحسن المنطق والبيان مغالطات خطيرة في فهم بعض حقائق اﻹسلام سواءً من الغرب الكافر أم من أبناء المسلمين أنفسهم، ولم تكن تلك الهدية الثمينة وحدها ولا آخرها، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول" تهادوا تحابوا" . في عام 2008م، قررنا الاستقالة من العمل وعودة كل منّا إلى موطنه بعد إقامة عمل جميلة رائعة، وزمالة مخلصة، وصداقة وفية، اجتمعت فيها القلوب قبل الأجساد، وصدق الأفعال قبل منطق الأقوال، وحب المرء لأخيه كحبه لنفسه، وانطبق فيها قول العرب "رب أخ لك لم تلده أمك"، واتضح جلياً أنّ معادن الرجال تبين في الأسفار، ومن يجد صديقاً صادقاً هذا الزمان في سفر أو حضر فكأنما حاز من كنوز الدنيا أثمنها، ونحن إذ نقضي آخر أيامنا في قطر الشقيقة كنّا نسأل الله تعالى أن ينطبق فينا قول الحبيب المصطفى _صلى الله عليه وسلم_ عند حديثه عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم "وشخصان تحابا في الله اجتمعا وتفرقا على ذلك".
ظلت الاتصالات الهاتفية بين الفترات وأوقات المُناسبات مستمرة بيننا، وهذه الاتصالات كانت عذراً مؤقتاً لنا إلى أن تحين الفرصة لزيارة أحد منّا الآخر الذي كان كل منّا ألح إليه، حتى شاءت الأقدار وانقلبت الموازين، وتغيَّرت الأحوال، وتبدلت الأوضاع، وحدث ما لم يكن بالحسبان بحلول أكبر نقمات وفتن القرن الحادي والعشرين، فكان الشعب والوطن والمقدرات والدين والإنسان ضحية للمؤامرات الداخلية والخارجية، والفتن المذهبية وصراعات الكراسي البغيضة، ورغم بؤس الحال، وشدة المعاناة، ولظى الحرب، ودمائها المتدفقة فقد كنّا في بداية الأزمة خلال أشهرها الأولى من عام 2011م على تواصل عبر الهاتف النقال، وبعدها الهاتف الأرضي؛ للسؤال والاطمئنان، وبعدها انقطعت سُبل التواصل والاتصال، وزادت نكبات الحرب وسعيرها، واشتد الدمار، وعمّ الخراب، وارتفع عدد القتلى، واختلط الحابل بالنابل، وأصبحت أقرب إلى الجزم بأنّه لحق بعدد الأبرياء الذين انتقلوا إلى جوار ربهم، ولكن ليس لديّ دليل يُثبت ذلك أو ينفيه غير أنّ الأمل بالله كبير، ولم يبق لي سوى الدعاء وسيلة تواصلي الدائم والوحيد معه. فبعد تعميمي الدعاء لجميع المسلمين، أخصه بأن يحفظه الحافظ الرحمن إن كان حيًا، ويرحمه إن كان ميتًا، ويجمعني به تحت مستقر رحمته، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "الدُّعَاءُ سِلاحُ الْمُؤْمِنِ وَعِمَادُ الدِّينِ وَنُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ" .
وخلال السنوات الماضية القصيرة أمدًا، السريعة انقضاء، الطويلة عليهم زمنًا، الشديدة قسوة وبؤسًا، العظيمة نكالاً ومحنة، الكثيرة خرابًا ودماراً، المتدفقة من الدماء بحارًا وأنهارًا والتي لا يعلمها حق علمها غير العليم الخبير، كنت لا أزال بين الفترة والأخرى أعاود الاتصال عبر هواتفه النقالة والأرضية التي تقطعت سبلها وأوصالها، مؤملاً نفسي راجياً ربي أن يتحقق أملي ويستجيب دعائي أن أعرف عن هذا الصديق شيئاً أو أسمع صوته أو التقيه في هذه الدنيا، أو يجمعني به الله تحت مستقر رحمته، فالظن بالله جميل، متذكرًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عن ربه "أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرًا فله وإن ظن شرًا فله ".
وبين تقليب صور الذكريات ومعاودة الاتصالات، تفاجأت بوجود اشتراك (الواتس عبر هاتفه) ولديه آخر ظهور قبل ساعات، ولم أكد أصدق هذا الأمر، وبعد أن تعذّر الاتصال أرسلت إليه رسالتي المتوهجة شوقاً وحنيناً، سائلاً في بدايتها إن كان هو صاحب الرقم أم لا؟ فردّ عليّ بعد خمس ساعات تقريباً بأنه هو صاحب الرقم، وأنّه بخير، وأن الوقت المناسب للاتصال ليلا.
مكالمة تشوشت بدايتها بما لا استطيع وصفه وبما لا يُمكن نسيانه، وبما لا يعلمه إلا إلله تعالى أن صديقي العزيز وزوجه وأبناءه الثلاثة ووالديه لا يزالون بخير رغم أنّهم في معمعة نيران الحرب والقتال.
مكالمة هاتفية لم أتردد في الجزم بأنّها أغلى مكالمة في حياتي حتى لحظتها، فقد تحققت بعد سنوات عجاف، وتحققت بعد رجاء اقترب من اليأس، وبعد خفوت أمل كاد يضمحل ويتلاشى، مكالمة لست أدري من الأكثر فيها شوقاً للآخر، مكالمة هاتفية وما سبقها من مكالمات بداية الأزمة قبل سنوات علمتني من دروس الحياة الشيء الكثير، فمن أحادثه يعيش في بلد ادلهمت خطوبها، واسود نهارها أكثر من ليلها، ومزقت الحرب أوصالها، فقتلت ودمرت وشردت، ولم يكن لسانه ـ ورب العزة والجلال ـ إلا شاكرًا حامدًا لله، صابرًا محتسباً أجره عليه، راضيًا بقضائه وقدره، داعياً متفائلاً أن يأتي بالفرج القريب، ووالله ما سمعت منه صخبًا ولا ضجيجاً ولا تبرمًا ولا سخطاً ولا شكوى رغم شدة المعاناة، مكالمة اقتصرت على الحمد والثناء، والدعاء والرجاء، والسؤال والاطمئنان، والشوق والحنين، والتفاؤل والأمل، والصبر والرضا، ولم يكن ذكره للحرب والمعاناة إلا عرضاً عابرًا عندما أخبرني بأنّ أكبر أبنائه أصبح خارج الوطن وقت سؤالي عنه، موقناً أنّ العُسر يعقبه اليُسر، مختتماً مكالمته بدعاء ورجاء أن يجمعنا الله في الدنيا في أطهر بقاع الأرض مكة المكرمة وفي الآخرة في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فتذكرت حينها شخصاً رأى الحرب في منامه ليلاً، فعاش كابوسها وهو على سريره نائماً هانئاً، فلما استيقظ أذاع الخبر ونشره، وشكا معاناته وخوفه وهلعه، فشتان شتان..والله المستعان.
issa808@moe.om


تعليق عبر الفيس بوك