المنظمات الدولية غير الحكومية

ناصر محمد

كثير ما يكون هناك خلط بين المنظمات من خلال صفتها: حكومية أو غير حكومية، فمنظمة "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" ينظر إليهما على أنّها منظمات تابعة للأمم المتحدة، وبالتالي تأخذ الدور الرقابي" الملزم" على الدول الأعضاء كما هو الحال للدور الذي يقوم به مجلس حقوق الإنسان أو آلية تعاقدية أو الجمعية العامة أو مجلس الأمن أو أيّ جهاز من أجهزة الأمم المتحدة، في حين هي غير تابعة للأمم المتحدة بل هي منظمات مستقلة غير ربحية.

يكمن الفارق الحقيقي بين المنظمات الحكومية وغير الحكومية في أعضائها، فالمنظمات الحكومية أعضاؤها هم "الدول" مثلما هو الحال في المنظمات الحكومية الدولية مثل "هيئة الأمم المتحدة" و "منظمة التجارة العالمية" و"منظمة العمل الدولية"، أو منظمات حكومية إقليمية مثل "جامعة الدول العربية" و"الاتحاد الأوروبي" و"منظمة التعاون الإسلامي". وتنشأ هذه المنظمات وفق اتفاقيات أو معاهدات تقوم الدول الأعضاء بالتصديق أو الانضمام إليها طوعاً من خلال مبدأ "السيادة المطلقة" لها. وبمجرد ما تصدق أو تنضم دولة معينة إلى الاتفاقيات المنشأة لهذه المنظمات يتحتم عليها الالتزام ببنود المعاهدة أو الاتفاقية المنشأة أو بالمعاهدات المرتبطة بها، وتمتد الرقابة الجبرية عليها -باستثناء قضايا حقوق الإنسان- في بعض الحالات مثل حدوث خرق للمعاهدة أو تفسير لها إلى محكمة العدل الدولية وفقاً للمادة 36 من نظامها الأساسي. وهناك منظمات حكومية تمّ إنشاؤها لمساعدة الأمم المتحدة تسمى بالأجهزة المتخصصة وذلك وفقًا للمادة 57 من ميثاق الأمم المتحدة تنشأ أيضًا بموجب اتفاق بين الحكومات مثل "منظمة العمل الدولية" و"منظمة اليونسكو" وغيرها.

أما المنظمات الدولية غير الحكومية - المتعلقة بحقوق الإنسان- فهي تنشأ بدون "الدول" كأعضاء لها بل تتألف من "أشخاص" حسب توجه المنظمة، فهي منظمات غير "حكومية" غير ربحية لها وظيفة رقابية على الحكومات ولكن دون إلزام كما هو الحال في المنظمات الحكومية، ولقد تمّ التطرق إلى إمكانية إنشاء هذه المنظمات في البداية بميثاق الأمم المتحدة وشجع على إنشائها لمعالجة الأمور المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين. وهي أيضًا غير تابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة وإنما فقط يقوم هذا المجلس بتحديد صفتها "استشارية" أو "مراقب" وفقًا لطبيعة نشاطها ومصداقيتها، وهي تسترشد في عملها بالوثائق والنصوص الدولية التي صادقت عليها الدول وتقوم بعملية رقابة غير مباشرة للدول لقياس ضمان التزامها بها مثلما هو الحال عند "منظمة هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" و"مراسلون بلا حدود" و"منظمة الكرامة لحقوق الإنسان"، ويختلف تأثير المنظمات غير الحكومية على الدول وفقًا لمصداقيتها وصفتها، وربما تعتبر "اللجنة الدولية للصليب الأحمر"، وهي منظمة غير حكومية، أكثرها تأثيرا لأنّ الدول ملزمة للاسترشاد بتوصياتها وتمكينها في عملها بطريقة مباشرة منذ أن تنضم إلى اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها الاختيارية.

أما بخصوص علاقة هذه المنظمات غير الحكومية بالدول، فالدول غير ملزمة بالتعاون مع هذه المنظمات لأنها ليست طرفاً في معاهدة أو اتفاقية معينة، فهذه المنظمات تقوم بعملها بطريقة غير مباشرة وذلك لجمع المعلومات عن الدول في حالتها الواقعية. ومن حق الدول السماح لهذه المنظمات بفتح مكاتب فرعية لها في أرضها كما يمكن رفض طلبها، وتعتبر تقاريرها مجرد وجهة نظر عن الأوضاع في أيّ بلد تستطيع منظمة دولية حكومية الاستئناس لها عند استعراضها لتقرير دولة طرف في اتفاقية معينة كما هو الحال في استعراض حقوق الإنسان للدول كل أربع سنوات أمام مجلس حقوق الإنسان أو أمام لجنة دولية لمتابعة الالتزام باتفاقية حقوقية لدولة طرف. ولا يعتبر تبني منظمة غير حكومية لأيّ انتهاك لحقوق الإنسان أو شكوى فردية ضد أيّ حكومة أن الشكوى سوف تتخذ جانباً إلزامياً يفرض على الدولة أن ترد عليه، فالدولة تلزم بالرد فقط على الشكوى الموجهة لمنظمة حكومية مثل مجلس حقوق الإنسان أو لجنة معنية باتفاقية مثل لجنة مناهضة التعذيب.

ويكمن سبب ضعف المنظمات غير الحكومية في رغبة الدول -كشخصيات قانونية- أن تتمسك بعنصر السيادة الذي يجعلها أكثر قوة ويجردها من أيّ التزام إلا مع الاتفاقيات التي تنضم إليها، وكذلك لتخوفها من تسييس هذه المنظمات من قبل دول أخرى، وربما هذا ما أدى إلى إيجاد مؤسسات وسيطة بينهما والمتمثلة بالمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان التي تمّ الاتفاق على إنشائها وفقاً لمبادئ باريس عام 1993م، وهي تنشأ وفقًا لقرار حكومي من الدولة لتقوم بمهمتها الرقابية عليها وعرض تقريرها على مجلس حقوق الإنسان واللجان التعاقدية، كما يعاد تقييمها من قبل لجنة التنسيق الدولية وفقاً لمصداقيتها والذي يقع على عاتق الدولة في ذلك، وقد تمّ إصدار قرار من الجمعية العامة مؤخراً بإشراكها في اجتماعات الجمعية العامة والذي يجعلها أقوى تأثيراً من بقية المنظمات وأكثر قرباً في صفتها من الدول.

وعلى الرغم من عدم إلزام الدول بتقارير المنظمات غير الحكومية إلا أنّ هذا لا يعني أنّ هذه المنظمات غير مؤثرة بالكلية على الدول، فهذه المنظمات تقوم من خلال تقاريرها بتشكيل حشد من الرأي العام الدولي عبر الإعلام، كما أن مجلس حقوق الإنسان واللجان التعاقدية تقوم بالاسترشاد بتقارير هذه المنظمات وربما تشكل توصياتها وفقًا للمعلومات الواردة إليها منها. وقد تؤدي كثرة التقارير عن انتهاك دولة معينة لحقوق الإنسان إلى لفت نظر الجمعية العامة أو مجلس الأمن إليها وبالتالي الاجتماع وإصدار قرار يأخذ طابع الإلزام تجاهها.

وكما أنّ هناك إيجابيات للمنظمات غير الحكومية فهناك أيضاً انتقادات ضدها، وخاصة بعد تصاعد قضايا "حقوق الإنسان" كمعيار أيديولوجي لتنصيف دول العالم وتأثيرها في اقتصاد هذه الدول وعلاقاتها ببعضها، ومن أهم هذه الانتقادات عدم وجود مورد مالي محدد لها، فهي منظمة غير ربحية ولكنها تحتاج إلى التمويل أيضاً لممارسة عملها، وهذا ما يجعلها عرضة للتسييس من قبل بعض الجهات التي تمولها فتؤثر بالتالي على مصداقية تقاريرها، كما أنها، وبسبب عدم القدرة أحياناً على التحقيق في بعض القضايا المثارة مباشرة، تعتمد في معلوماتها على الوسائل البديلة كمواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وتنشر تقارير وأرقاماً غير دقيقة مستغلة بذلك مصداقيتها. كما أنّ الخلفية الليبرالية لحقوق الإنسان تجعل عدسة الرؤية لهذه المنظمات غير عادلة تجاه بعض الدول، فتضخيم بعض الانتهاكات الحقوقية خاصة المدنية والسياسية منها مثل حقوق المرأة وحقوق المثليين وحرية المعتقد يجعل من الرأي العام العالمي يغفل الحقوق الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية التي تعتبر أولوية لشعوب هذه الدول.

تعليق عبر الفيس بوك