المواطنة

 

د. صالح الفهدي

 

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (34)

عانت إحدى الموظفات من وضعٍ ما في عملها نتجَ عنه إصابتها بآلامٍ واضطراباتٍ نفسيّةٍ جعلها رهينةَ المهدّئاتِ، والأدويةِ. أما الذين تولوا المسؤولية عليها فلم يُدركوا خطورة الوضع الذي تشتكي منه بصورةٍ دائمةٍ لهذا لم يكترثوا للوضع..! لم تجد من يستمعُ لشكواها، بل إنّ من يستمع لا يجدُ في الأمر ما يحمل على الاكتراثَ به..! وصلت بها المرارة والحزازة إلى التفكيرِ اللحظي العاطفي بالهجرة من موطنها..! صحيحٌ إنّه كان مجرّد ردّةَ فعلٍ عاطفية ليس له قناعة لأنّها تدرك منطقياً " أنّه ليس لوطنها ذنبٌ في مشكلتها" ولكن الشعورَ - بفعل التراكمات - لا بد وأن يستفحلَ في اللاوعي، فيترجمه إلى سلوكٍ بصورةٍ أو أُخرى في المستقبل..!

إن السائدَ في مفهوم المواطنة هو أحادي القُطب، بمعنى أنّه مركّزٌ ناحية المواطن وكيفية تنمية و"ترسيخ" مفهوم المواطنة في ضميرهِ، وتحفيزهِ ليكون مواطناً صالحاً في مجتمعهِ، يؤدي واجباته بكفاءةٍ وأمانةٍ وصدق وذلك مأخوذٌ من المفهوم السياسي للمواطنة في تعريفه لها بأنّها صفة المواطن الذي يتمتّع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن. إنّما يُعبّرُ هذا الفهم الشائع عن نقصانٍ مُخل سببه التركيز على الواجبات المنوطة على المواطن، وعدم التركيزِ على الجهات المسؤولة عن أداء الحقوق..! وفي هذا النطاق ركّزتُ حديثي في ملتقى خُصصّ للحديث عن تنمية المواطنة بجامعة السلطان قابوس، حيث تحدّثتُ عن "قيم المواطنة بين المواطن ومؤسسات الدولة في ضوء الفكرِ السامي لجلالة السلطان".

فأمرٌ بديهي أن كلّ قيادةٍ سياسيّةٍ تسعى في أن يتجاوزَ مفهوم المواطنة مجرّد الامتلاك الشكلي لبطاقة تعريف أو جواز سفر، إلى تعميق الغيرة على الوطن، والاعتزاز بالانتماء إليه، والمشاركة الفاعلة هذا أمرٌ لا تطمحُ وحسب بل وتعمل لأجله كل قيادةٍ حصيفة. ولتحقيق هذا المطمح السامي فقد خاطب جلالة السلطان في 1978 كبار المسؤولين في الحكومة بقوله: "عليكم أن ‏تجعلوا نصب أعينكم دوماً مصلحة عُمان وشعب عمان، وأن تتذكروا ما قلناه آنفاً بأنّ هذه الدولة بكل أجهزتها هي لخدمة هذا الوطن العزيز ‏ومواطنيه الأوفياء".

إنّ للمؤسسات الحكومية ومسؤوليها دورٌ رئيس في إذكاء المفاهيم السليمة للمواطنة في قلب المواطن، إذ لا يمكنُ تنمية مفهوم المواطنة في قلبِ المواطن في ظلّ تقصير مؤسسةٍ ما عن منحه حقوق المواطنة لأنّ حالة التوازن النسبي بين الحقوق والواجبات، هي أفضل الحالات المُنتجة لقيم المواطنة خاصة حينما يستشعر المواطن تقدير واهتمام وخدمة مؤسسات الدولة له والوفاء بحقوقه التي كفلها النظام الأساسي للدولة، فيُبادلها "الفعل المواطني"، بأداء واجباته، واستعداده لتقاسم المسؤوليات والأعباء معها.لهذا ومن أجل تفعيل المواطنة الحقيقية لا بد من توفر كل الإمكانيات والقدرات لدى أفراد المجتمع من قبل مؤسسات الدولة لتمكينهم من الوفاء بما تتطلبه الفرص التي يُهيئها المجتمع لهم، كالمؤسسات التعليمية ومؤسسات الخدمات وعناصرها المختلفة.

وعلى هذا الأساس فلا يمكن أن تتحقق المواطنة، بدون مواطن يشعر شعوراً حقيقياً بحقوقه وواجباته في وطنه، إذ لا مواطنة بدون مواطن، ولا مواطن إلا بمشاركة حقيقية في شؤون الوطن على مختلف مستوياته. وأن أيّ قصور في أداء مؤسسات الدولة وأجهزتها ومسؤوليها خليقُ بأن يكون سبباً في اختلالات لمفهوم المواطنة لدى المواطن. فإذا قصرت جهة في دعم مواطن يُريد أن يُنشأ مصنعاً أو شركة فعقَّدت له الأمر، وأعاقت له الأسباب، فقد أضعفت لديه قيمة المواطنة ودفعته إلى البحثِ خارج نطاق الوطن جغرافياً عن حاضنٍ آخر لمشروعه..! وإذا قصرت في تعليمه دفعته إلى الجهل والتخلف..! وإذا قصرت في رعايته والعناية بشؤونه دفعته للانحراف..! وإذا لم تضمن له توفير العلاج الصحي السليم دفعته للسقم والمرض..! وإذا لم توفر له فضاءات الإبداع والابتكار فقد ألقته في براثن التسكّع والضمور..! وإذا لم توفر له عوامل الإصلاح وعلى رأسها القاعدة الإيمانية دفعته إلى التميع والتماهي..! وإذا لم تحمهِ من وسائل الانحراف فقد يسّرت له طريق الضياع والفساد..! الفكرة المنطقية هنا هي بإيجاز تتمثّل في الآتي: أن المسافة بين الوطن والمواطن لا تجسرها ولا تجسدها محض كلمات ومشاعر وشعارات، ولكن التجسيد والتجسير يتمثل في سلوك المُواطن بين حقوقه وواجباته.

إذا تحدّثنا عن إحدى ركائز المواطنة وهو العدل فإنّ أقصى مطامح أيّة حكومة هي أن يكون المواطن عادلاً، لا يعتدي على حقوق المواطنين الآخرين ولا يظلمهم ولا يتغوَّل أموالهم، ولا يعتدي على ممتلكات الوطن بل يصونها ويحافظ عليها وفي المقابل له حق في أن يعامل بعدالة مطلقة في تقاضيه أو وظيفته، أو مصالحه، فالمسؤول عليه واجب التعامل بعدلٍ مع موظفيه وفق القوانين والأنظمة وليس وفق أهوائه وأمزجته ومصالحه..! ولأجل ذلك لابد وأن تكون معايير الكفاءة هي مناط الحكم، وميزان العدل، فصاحبُ الكفاءة هو الخليقُ بالأفضلية عن غيره. والعدلُ هو أساسُ ضمان حقوق المواطنين التي يفترضُ أن تبعدَ عن المحسوبيات والواسطات والتمييز لهذا فأن يمنحُ مواطنٌ ما أرضاً صناعية وتجارية وسياحية وسكنية، وزراعية لن يكون ذلك عادلاً لمواطنٍ آخر لا يحصلُ حتى على قطعة أرضٍ سكنية في سيحٍ أقفر..!! هنا يكمن الإشكال الذي تقع فيه بعض المؤسسات في إضعافها للمواطنة في قلب المواطن من حيث تدري ولا تدري..!

قلتُ ذات مرّة في مجلس الدولة وقد كان الملتقى عن تعزيز المواطنة: إنّ حساسية التعاطي مع مفهوم المواطنة يستوجبُ التوقّف والإمعان فيه لأنّ بعض المؤسسات تُسهم للأسف في إحداث إخلالات بالمواطنة وضربتُ لذلك ثلاثة أمثلة. أما المثل الأول فهو لحالةٍ من حالات الإصلاح الاجتماعي قامت بها طالبات جامعيات لإصلاح الأحداث في السجون لم يجدن من يُموّل مشروعهن الوطني من مؤسسات الحكومة. المثل الثاني ركّز على عدم التساوي في مكافآت البعثات - قبل تعديله- بين بعثةٍ كاملةٍ وأُخرى جزئية، مما أنتجَ شعوراً نفسياً بالانتقاص من حقوق المواطنة في نفوس الذين اجتزأت مكافآتهم..!. المثل الثالث: هو في الترقيات الجماعية التي لا تميّز بين صالح وطالح، ومهملٍ ومتميّز مما لا ينتجُ عنها شعوراً بالعدل وهو جوهرُ المواطنة الصالحة..! ولجلالة السلطان رعاه الله قول مأثور بليغ يقول فيه "إنّ العدل أبو الوظيفة وحارسها فتمسكوا به وعاملوا الجميع بمقتضاه وإنني ‏لرقيب على أن يفي كل منكم بهذه الأسس والمعاني" هذا القول المنطقي إنّما جاء من قول النبي عليه أفضل الصلاة والسلام: "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيته.. إلخ".. ويؤكّد جلالته على إرساء مفهوم العدل بقوله:" كل الأفراد العمانيين هم إخوة وأبناء ولا نُحب أن نسمع أن ‏هناك توظيفاً أو تقريباً أو تمييزاً على أسس غير الكفاية واللباقة والإخلاص".

إنّ المؤسسات التي تتخذ من العدلِ منهجاً لها إنّما تُسهم في تفعيل لبّ المواطنة، فتحافظ - كنتيجةٍ لذلك على ترابط النسيج الاجتماعي القوي بين مكونات المجتمع حين لا يشعرُ مواطن بالدونيةِ في نيل الحقوق مُقابل تمييز مواطنٍ آخر..! كما أنّ القانون الذي يكفل العدالة الاجتماعية يُسهم في تقوية المواطنة بين أفراد المجتمع فيطمئنون على حقوقهم وعلى ممتلكاتهم وأنفسهم. هذا فضلاً عن أنّها تدفع بهم إلى احترام حقوق المواطنة في علاقاتهم مع بعضهم البعض أو مع مؤسسات المجتمع وتعمق لديهم الشعور بالانتماء الوطني، وتحفيزهم للمشاركة الفاعلة في المجتمع.

وفي المساواة فإنّ أيّة دولة تعمل على التزام مواطنيها في تعاملاتهم مع بعضهم البعض دون إقحامٍ، أو ترقية، أو تفضيلات، لأية انتماءات قبلية أو أسرية أو مهنية أو عرقية أو انتماءات، فالوطنُ هو ميدانُ المساواة للجميع، وعلى هذا الأساس يفترضُ على مؤسسات الحكومة أن تعمل على سيادة مفهوم المساواة بين المواطنين في كل شيء وعدم التمييز بين أفراد المجتمع في المعاملة وفقاً لخصائص الأفراد أو مصالحهم، أو عرقياتهم أو طوائفهم أو طبقاتهم، فلا بد أن يكونوا سواسية تحت ظل القانون. وفي هذا النهج يقول جلالة السلطان حفظه الله:" "المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة ولا تمييز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللون أو اللغة أو الدين أو المذهب أو الموطن أو المركز الاجتماعي".

إنّ الثقة بين الحكومة والشعب هي أساس المواطنة لأنّها الرابط الوثيق بين الطرفين - في النطاق القانوني- وفي هذا يروى أن حواراً جرى بين الفيلسوف الصيني كونفوشيوس وتلميذه (هو تسي كوج) الذي سأله عما يجب أن توفره السياسة للشعب، فأجابه قائلاً: يجب أن توفر السياسة ثلاثة أشياء: لقمة العيش لكل فرد، والقدر الكافي من التجهيزات العسكرية، والقدر الكافي من ثقة الناس في حكامهم. فسأل التلميذ: وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد الثلاثة فبأيها تضحي؟ فيرد الأستاذ: بالتجهيزات العسكرية. ويعود تسي كوج فيسأل: وإذا كان لا بد أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين فبأيهما تضحي؟ فيجيب الأستاذ: في هذه الحالة نستغني عن القوت لأنّ الموت كان دائماً مصير النّاس ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أيّ أساس للدولة".

إنّ المواطن ليُعبّر عن الثقة به من خلال عملهِ وإخلاصه وتفانيه وخدمته ومبادراته، أمّا الحكومة فإنها تعبّر عن الثقة بصدق التعامل مع المواطن، وحسن الأداء وجودة الخدمات التي تقدّمها للشعب..هذا المفهوم لا يغفلُ عنه جلالته فيؤكّد عليه بتوصيته لكبار المسؤولين عام 1978 قائلاً لهم :" لقد أولانا شعبنا منذ تولينا أموره ثقته الكاملة بنا، ومن خلال ثقته هذه، وثق بمن اخترناه ‏ونختاره لتولي المسؤولية لإدارة مصلحته العامة، ولذا فإنّ علينا وعليكم المحافظة على هذه الثقة ‏وعدم التفريط بها".

وإذا كانت الدولة تطمحُ في أن يقدّر المواطن وطنه وتاريخه ويحترم رموزه السياسية والعلمية والفكرية والدينية، ويقدّر ما تحقق من منجزاتٍ ومكاسب فيدفعه ذلك للمحافظة عليها وصيانتها وحمايتها من أن تطالها يد العابثين فإنّ على الحكومة في المقابل أن تقدر المواطن وألا تنظر إليه على أنّه صاحب حاجة، بل صاحب حق وأنها قد وضعت لخدمته، وهذا ما يؤكّده جلالته في سياق النصيحة ذاتها قائلاً:"وهناك أمر مُهم يجب على جميع المسؤولين في حكومتنا أن يجعلوه نصب أعينهم، ألا وهو أنّهم ‏جميعاً خدم لشعب هذا الوطن العزيز".

بإيجازٍ أقول إنّ قيمة المواطنة متعلّقة بأداء الحكومةِ، وإدراكها لأبعاد تعاملاتها مع المواطنين، ومنهجها الذي تتّبعه فيما تقدّمه من حقوق مستحقّة للمواطن، أكثر مما تتعلّق بالمواطن الذي تتشكّل مشاعره وأحاسيسه في إذكاء المواطنة كردّة فعلٍ لأداء الحكومة وتعاطيه مع الشأن العام والخاص، ومدى القرب أو التقدير الذي يتلقّاه من مؤسساتها. المؤسسات الحكومية بيدها تعزيز وتنمية المواطنة وبيدها إضعافها وهو ما يعتمدُ على إدراك وفهم وبصيرة القيادات والأفراد التي تتولى زمام الإدارة فيها.

تعليق عبر الفيس بوك