جميلة .. ومأساة اليمن

سالم الكثيري

زرت اليمن ثلاث زيارات خاطفة بين عامي 2008 و2012 لم أتعد فيها المكلا. مررت على حوف وجادب وغيرهما ثم الغيظة التي تعتبر عاصمة محافظة المهرة فالمكلا مرورًا بنشطون وقشن وسيئوون والريدة والشحر وغيرها من القرى والمناطق الساحلية التي لم أعد أذكرها لا اسماً ولا ترتيباً جغرافياً. إلا أنّ القاسم المشترك الذي أذكره من هذه الزيارات هو ملامح الحياة القاسية وعلامات البؤس والفقر التي أقرأها في وجوه النّاس .لقد فقد الأطفال براءتهم والشباب نضارتهم فيما استلمت الكهولة البقية الباقية من الأعمار لطغيان الملل والضجر والفراغ أو العمل المُجهد الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع فجهده جهيد ودره زهيد.
هناك حيث تطوي سيارتك الرباعية الدفع المسافات في لمح البصر والتي تحمل في ثلاجتها علب العصائر والمياة المعدنية الباردة، لن تستغرب أن ترى مشهد طفل يقود حماره لجلب الماء من البئر تحت شمس الصيف القائظة في نهار يلفح برياح السموم، أو تصادف امرأة قد يبس عودها تحتطب لتوقد لعيالها نارًا تطبخ بها لهم شيئًا من بقايا السردين المُجفف على الشطآن. أو شاب ينتظر على قارعة الطريق علّه يجد من يجود عليه بعمل آني يسد رمقه وقوت أهل بيته ليوم واحدٍ فقط وإن انطلق لسانه وتجرأ قليلاً لن يسألك مالا إنّما يتوسل إليك في الحصول على تأشيرة تُمكنه من العمل في إحدى دول الخليج.
اليمن على فقرها وحالها البئيس كانت تستقبل آلاف اللاجئين من أثيوبيا وأريتريا والصومال وتمنحهم فرصة العمل. ومع مشاركة هؤلاء لأبناء اليمن في لقمة عيشهم لم ألحظ في زياراتي تلك يمنيًا يمد يده .بل إنني أذكر موقفًا لكبير في السن يعمل حمالاً في المكلا سألناه عن موقع ما وبعد أن وصفه لنا رفض بكل أنفة أن يأخذ مقابلاً زهيدا والذي اعتبرناه من باب الإكرامية.

وقد تكرّر موقف العفة معنا في الغيظة وغيل باوزير وغيرهما . المتسولون في الغالب ليسوا يمنيين بل هم من النازحين من القرن الأفريقي وهم أيضًا معذورون إذا طلبوا العون بعدما عبثت يد الفساد في المساعدات الأممية المقدمة لهم. وأصبحوا محاصرين في مخيماتهم دون عمل أو غذاء.
حوف - ومن لا يعرف حوف من العمانيين وخاصة من أبناء محافظة ظفار؟ التي كانت تُرحب بالنازحين أيام حرب ظفار. والتي كانت تعيش عصرها الذهبي آنذاك وتعج بالأسواق والناس لم تعد اليوم سوى قرية نائية مقارنة بالمُدن العمانية في عهد النهضة المباركة..

في زيارتي الأخيرة حللتُ مع آخرين ضيفاً على أحد الكرماء.تقدمنا بسيارته القديمة ورحب بنا في بيته البسيط. هيئة الرجل وتواضع لباسه يوحيان من الناحية الشكلية بأنّه عامل بسيط في أحسن الأحوال وأنّه ليس ذا حظ وافر في التعليم ولكني علمت منه لاحقًا أنّه يعمل مديرًا ويحمل الماجستير في العلوم الاجتماعية. بينما نحن الضيوف بقمصاننا البيضاء وسياراتنا الفارهة والكلاشينكوفات المُستعارة لغرض حضور عُرس - للأمانة لم استعر سلاحًا وعن قناعة- لا يحمل معظمنا إلا الثانوية وبالقفز أيضًا. وشر البلية ما يضحك.
أما عدن وصنعاء فلم أصل إليهما ولكنهما غنيتان عن التعريف حيث الحضارة والتاريخ والمجد والفن، وإن كان يخفى على جيلنا أن عدن كانت إلى فترة الستينيات لندن اليمن والجزيرة العربية أو كما يطلق عليها(half london) فإنّ الأجيال السابقة تعرف عن قرب أنها كانت تجول في شوراعها السيارات الفخمة وتقوم على جنباتها العمارات الضخمة بينما لازلنا نحن أهل الخليج نتفاوض على الدعون لبناء عشش الصيف والشتاء المناسبة. وصدق التاريخ إذ يؤكد لنا بين الفينة والأخرى أنّ الأيام دول.
الآن وفي هذه اللحظة التي أكتب فيها المقال ترقد بجانب ولدي الذي دخل المستشفى لعارض صحي، جميلة اليمنية طفلة في الثامنة من العُمر قدم لها الأطباء في مستشفى السلطان قابوس بصلالة ما استطاعوا من جهد حيث أجريت لها جراحة في العين اليمنى ومكثت ما يُقارب الشهر وهي الآن بحاجة لإجراء عملية لاستئصال ورم في الرأس..

هذه الطفلة الذكية المنهكة الجسد تحكي لنا البؤس الذي حلّ بأطفال اليمن والظلم الذي تعرضوا له بسبب الأطماع السياسية والاقتصادية والاستبداد والصراع المقيت على السلطة والذي حول اليمن السعيد إلى اليمن البئيس وليست جميلة إلا حالة من آلاف الحالات لأبناء اليمن الذين قُتلت فيهم البراءة وحلم الطفولة وحُرموا من أبسط حقوقهم في التعليم والرعاية الصحية والعيش بكرامة.

وأنا منهمك في الكتابة عن حال جميلة وأخواتها يصلني مقطع واتساب لشاب يمني شاحب الوجه تتحلق حوله مجموعة صغيرة وهو يعزف على عود مصنوع من صفيحة زيت فارغة وخشب مربوط بخيوط صيد السمك.هذا الموهوب الذي يغني لنا "حبيبي قلبي يحين حنينه" ويبهرنا بمقطع من أجمل وأعذب ألحان الفنان أيوب طارش كيف به لو سلم عود أيوب نفسه وتمت رعايته كمبدع ؟ ألن يصنع العجب كفنان؟
قصة اليمن اليوم تُذكرني برواية البؤساء لفيكتور هوجو والتي انتقد فيها الأوضاع السياسة والاجتماعية والاقتصادية في باريس في القرن السادس عشر الميلادي حيث شاع الظلم والاستبداد والفقر والمرض .فمن هم الأبطال المنتظرون الذين سيعملون على مساعدة الفقراء ومحاربة الظلم مثلما فعل بطلا الرواية الشهيرة جان فالجان والفتاة كوزية..
بتوجهيات صاحب الجلالة قامت الحكومة وخاصة وزارة الصحة بدورها الإنساني في استقبال مئات الحالات المرضية لإخواننا اليمنيين. فالشكر كل الشكر لهذه الجهود والشكر كذلك لفاعلي الخير مع هذه الحالات من مواطنين قاموا بكفالة هؤلاء المرضى للدخول للسلطنة أو أطباء أدوا رسالتهم الإنسانية تجاه المرضى والشكر موصول لفاعلي الخير الذين نسمع عنهم يتسابقون في التكفل بعلاج الحالة المرضية تلو الحالة ولا شك أنّ جميلة سترعاها يد الله في ظل حكومة صاحب الجلالة وفي وجود أهل الخير في عُمان.


تعليق عبر الفيس بوك