صُناع الأحذية: يتركون كوريا من أجل فيتنام !

د. سيف بن ناصر المعمري

كنت أتساءل كثيرًا ما الذي يجعل ابني وكثيرًا من أطفال المدرسة التي يذهب إليها مُغرمين بأحذية "نايك"، هل للعلامة التي تظهر عليها والتي تعني بالعربي "صح"؟ أما لشيء آخر لكن الأسبوع الماضي وقع بيدي مصادفة مقال حول مصنع هذه الأحذية، وكيف أنّ صاحب المصنع الكوري الجنوبي وشركاءه يعملون على أفضل ما يكون فإنتاجهم كبير جدًا، ولا تواجههم إلا مشكلة واحدة هي ازياد معدل ترك العُمال للمصنع في السنوات الأخيرة، حيث يترك العمل كل عام واحد من كل خمسة عمال، لكن ليس هذا هو المستغرب إنما ما لفت انتباهي هو تركهم للعمل في كوريا الجنوبية التي نعرف أنّها تنمو اقتصاديًا بشكل متزايد من أجل الذهاب إلى فيتنام حيث الأجور تتضاعف سنوياً، وحيث توجد خيارات عمل متعددة للعمالة الماهرة، وبدلاً من أن أواصل البحث عن أحذية "نايك" ركزت بحثي على سر هجرة صُناع أحذية "نايك" من كوريا الجنوبية المعروفة بنموها الاقتصادي إلى فيتنام التي كل ما أعرفه عنها ويعرفه كثيرون هو الشيوعية وحرب أمريكا لها في الستينات، حيث عملت على تدميرها كما دمرت العراق بعد غزوها واحتلالها لها في عام 2003م، ويبدو أن الأمريكيين لا يحلون بأرض إلا ودمروها، لكن هناك شعوب تستطيع أن تحوّل الدمار إلى بناء وتنمية، وهناك شعوب تجعله مقدمة لدمار أكبر، وضياع ليس بعده قدرة على النهوض.

فيتنام دولة اشتراكية تقع في جنوب شرقي آسيا وهي دولة ذات كثافة سكانية كبيرة حيث يتجاوز عدد سكانها (90) مليون نسمة، يُشكل الشباب الذين تقل أعمارهم عن (30) سنة (60%)، وكانت فيتنام منقسمة على نفسها إلى دولتين شمالية وجنوبية حتى توحدت مرة أخرى بعد انتهاء الغزو الأمريكي لها في 17 يونيو 1975م، ولقد تكبدت فيتنام في هذه الحرب خسائر بشرية واقتصادية فادحة، أما الخسائر البشرية فبلغت مليون ومائة ألف قتيل وثلاثة ملايين جريح ونحو ثلاثة عشر مليون لاجئ، أما الخسائر الاقتصادية فحسب تقرير أصدرته الأمم المتحدة في عام 1995م أشار إليه مازن المغربي في مقال بعنوان "فيتنام إنجاز اقتصادي مميز" فإنّ الولايات المتحدة استخدمت السلاح الكيميائي الذي أدى إلى تخريب أكثر من (78) ألف هكتار من الأراضي الزراعية والغابات هذا فضلاً عن تضرر (5%) من الأراضي الحراجية، فهل استسلمت فيتنام لهذا الدمار أم قاومت وقررت أن تعتمد على ذاتها وتثبت أنها لم تهزم الولايات المتحدة في ميدان الحرب فحسب بل إنها سوف تهزم الدمار بالتنمية المستدامة، وسوف تعيد بناء قوتها الاقتصادية مرة أخرى، فلا مكان للأمم التي لا تستطيع أن تقاوم وتتغلب على أزماتها سواء كانت سياسية أم اقتصادية.

إذن خرجت فيتنام من واقعها وحددت ما يجب عليها القيام به من أجل الحفاظ على هيبتها وسيادتها ومن أجل توفير العيش الكريم للملايين المتزايدة، ولذا كان التخطيط للمعركة التنموية كما كان التخطيط للمعركة العسكرية وبلد انتصر في زمن الحرب لا يمكن أن يهزم في زمن السلم، فالذين ناضلوا للحفاظ على وحدة وطنهم قرروا أن يواصلوا تكاتفهم من أجل الارتقاء به، مما يعكس تبلور وعي وطني عالٍ جدًا، حيث أصبحت مصلحة فيتنام العليا مقدمة على أيّ مصلحة خاصة، والنتيجة هي معدلات نمو مذهلة وصلت (7%) سنويًا، وارتفاع كبير في نصيب الفرد من الدخل الوطني من (98) دولارا عام (1990) إلى (2900) دولار عام (2009)، وإعادة هيكلة لقدرة مساهمة الأنشطة الاقتصادية في الناتج القومي، فمن الزراعة كان الاتجاه لزيادة نسبة الصناعة التي بلغت (40%)، إلى زيادة نسبة مساهمة قطاع الخدمات إلى (39%)، فكيف حصل ذلك في بلد يعمل أكثر من نصف سكانه في الزراعة التقليدية؟.

لقد ركزت فيتنام على التعليم وهي تسير في دروب طويلة للنهوض به، لكنها تحصد نجاحات متنامية فيه، حيث يزداد عدد العمال المهرة، كما أنّ فيتنام قررت أن تأخذ خطاً مغاير لجارتها الضخمة الصين التي تقع في الشمال من حدودها، حيث قرروا أن تكون صناعتهم ذات جودة، وألا يصدروا إلا منتجات ذات جودة، وبالتالي لا يسمحوا أيضًا لأحد غير ماهر أن يدخل النشاط الاقتصادي، مما يعني الارتقاء إلى الأمام بدلاً من فتح البلد لعمالة غير ماهرة تكرس واقعاً لا يمكن التغلب عليه وهو كل شيء "معطوب"، ولا مكان لسياسات الجودة حتى في قطاع التعليم، فالأبواب مفتوحة لكل أحد مهما كانت مهاراته متواضعة، فهل يمكن أن نتعلم من هذه الدولة، لأننا في معركة حقيقية، وليس لنا خيار إلا التسلح بالإرادة للانتصار فيها.

حين حلل بعض الباحثين هذا النمو التنموي والاقتصادي الفيتنامي من أمثال راما (Rama, 2008) وجودوا أن هناك مجموعة من العوامل جاء في مقدمتها وضوح الرؤية لدى الحزب الحاكم لما يجب أن ينجز، وتوفير بنية تحتية مُحفزة، وتنويع الأنشطة الاقتصادية وتحريرها، وتطوير التعليم والصحة للنهوض بقدرة الإنسان على الإنتاج، ولفت نظري في ما ذكرته هذه الباحثة مصطلح "التآزر الاجتماعي" (Social solidarity) أي تجنب إيجاد أطراف "خاسرة" من الناحية المادية في تطبيق الخطط الاقتصادية، وأيضًا تجنب إيجاد أطراف "رابحة" بطريقة غير معقولة، ولذا كان العمل على رفع معايير الحياة ووضعوا شعار "لا أحد يستحق أن يكون فقيرًا"، وبالتالي جمعوا بين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي.

ما أكثر الأسئلة التي يمكن أن تطرح حول التحول الاقتصادي في فيتنام، وما أسهل الإجابة التي يمكن أن تقدم في كلمات مختصرة هي التخطيط، والعمل الجاد، والإخلاص، فالقاعدة التي تبنوها كانت ولا تزال ننهض معاً أو نغرق معًا، لم يعرف هؤلاء أمثالا كتلك التي نتداولها ويؤمن بها الإنسان الصغير والمسؤول الكبير في مجتمعاتنا ومنها "إذا سلمت ناقتي ما علي من رفاقتي"، هنا تضيع كل الآمال، وهنا تتبدد كل الفرص التي يمكن أن تستثمر، فمن الاعتراف بالحق والمشاركة ينبع التقدم، ومن الإقصاء والاحتكار ينبت التأخر، ويتحول المجتمع إلى فئتين "رابحين" و"خاسرين"، ويقود الصراع بينهما إلى إيجاد بيئة منفرة للاستثمار والحياة، فهل هناك أمل في أن نتعلم بعض الشيء من فيتنام البلاد التي ينام سكانها مطمئنين رغم وجود التنين الصيني العملاق على حدودها الشمالية، إنّهم اليوم ينظرون إليه بثقة وقادرون على مجاراته، لم يبث في أنفسهم اليأس والقنوط، كيف للقانطين أن يبنوا أوطاناً حية؟.

تعليق عبر الفيس بوك