طريق الحرير الجديد: بين مستقبل التجارة الدولية ومستقبل التواصل الإنساني

عبدالرحمن السالمي

في العام 2010، نشر روبرت كابلان الكاتب الصحفي في مجلة أتلانتيك الشهرية -صاحب كتاب "إمبراطوريات الرياح الموسمية"- عن التحولات العالمية في الطريق البحري القديم في المحيط الهندي، وذكر أن التفاعلات التجارية فيه تسحب خطوط التجارية العالمية من شمال الأطلسي إلى المحيط الهندي ثانية. وقد لاقت هذه الأطروحة صدى في مراكز الإستراتيجيات الدولية.

ومن ثمَّ فقد تقدم لهيلاري كلينتون أن رسمت رؤية لـ"طريق الحرير الجديد" في الشرق الأدنى والأقصى، مُبنيَّة على فكرة التعاون في مجالات التجارة والبحث والتواصل الثقافي. وقد بين كاتبها (GeoffryPyatt) في خطاب له في 9 يوليو عام 2012 الإستراتيجية التي تساعد على إعادة وصل هذه البلدان التي "مزقتها عقود من الحروب والتنافس" -شأن الولايات المتحدة الأمريكية والهند واليابان وأفغانستان...- مُبرزا أنَّ التعاون يُمكن أن يتحقق بفضل تكثيف التجارة والحوار بين صناع الرأي في كل المستويات، سواء الصناعية أو الدبلوماسية أو التربوية. لقد تنبه إلى أن كلمة "جغرافيا" كلمة "مُشْكلَة"، وأنها استعملت عادة تعِلَّة أو مشجبا للانكفاء أكثر مما شجعت الحوار بين ممثلي مختلف الدول. ومن هنا تأتي ضرورة تأسيس إطار للحوار يكون "منفتحا ومندمجا".

وقد ذكر روبير بليك جونيو كاتب الدولة المساعد في وزارة الخارجية الأمريكية، في إطار خطاب ألقاه يوم 13 مارس 2013، أنَّ "إستراتيجية طريق الحرير" ترتهن في حدود واسعة على مشاركة الدول مشاركة فعالة. وشدد على ضرورة تفاهم ثقافي بيني أفضل؛ إذ ثمة -إلى جانب تبادل المواد الأساسية- تبادل آخر لا يقل عنه أهمية، وهو تبادل الأفكار.

وفي العام 2013، أطلق الرئيس الصيني شي جينبنغ بادرةً جديدةً وثقافية كبرى سمَّاها اختصاراً "مبادرة الحزم والطريق"، وفي التفصيل فإنّ اسمها طريق الحرير الجديد. وقد اشتهرت الفكرة والمبادرة وبدأ العمل عليها في استرشادٍ واضح بطريق الحرير القديم، والذي كان فكرةً عبقريةً ظلّت مزدهرةً قروناً إلى مشارف العصور الحديثة. وما أدّى إلى إخمادها غير ظوهر ممارسات العنف والحرب في التجارة البحرية بعد القرن السادس عشر في المحيط الهندي وما جاوره.

منذ أكثر من مائة عام تجدَّد الحديث عن طريق الحرير، وظهرت أفكار ومبادرات في إمكانيات استعادتها بجوانبها التجارية والاقتصادية بوصفها إستراتيجية سلامٍ وتضامنٍ في تلك البراري والقارات والمحيطات الشاسعة، التي سادت فيها في القرون الأخيرة وجوه سوء العلاقات والحروب والتقاطُع. وقد قام رحّالةٌ في البر والبحر بمحاولات لتتبُّع شعابها البرية والبحرية، واستكشاف الأجزاء التي ما تزال قائمةً منها. خاصةٍ وأنها تغطّي أكثر من نصف الكرة الأرضية (فوق الستين بالمائة!). وكما سبق القول، فإنّ الرئيس الصيني شي جينبنغ قدم عام 2013 مبادرةً شاسعةً واقعيةً في الوقت نفسه تحت اسم: طريق الحرير الجديدة، أو مبادرة الحزام والطريق، ليس للإيحاء أو للحنين التاريخي فقط؛ بل وللإبداع والتطوير أيضاً، وصنْع مستقبل آخر للبشرية التائقة إلى التواصل والازدهار والسلام، كما قال الرئيس الصيني في مقدمته التمهيدية للمشروع، وبهذه المناسبة أصدرت الحكومة الصينية في مارس عام 2014 كُتيباً يقرأ المشروع ويفصّله، ويحدّد الخطوات التي جرى البدءُ بها، ويطلب من سائر المهتمين المشاركة والانضمام. كان العنوان المختصر للمبادرة والكاتب: "طموحات وتطلعات وأعمال بشأن دفع البناء المشترك للحزم والطريق".

ووفق هذه الوثيقة، فإنَّ الحزام الاقتصادي لطريق الحرير يتركز على ثلاثة خطوط رئيسة: الخط الأول يربط بين الصين وأوروبا مروراً بآسيا الوسطى وروسيا. والخط الثاني يمتد من الصين إلى منطقة الخليج والبحر الأبيض المتوسط مروراً بآسيا الوسطى وغرب آسيا. والخط الثالث يبدأ من الصين ويمر بجنوب شرق آسيا وجنوب آسيا والمحيط الهندي.

أما طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين؛ فكثير من أجزائها جديدة في تخطيطها، وإن ظلّت تستند إلى الأصل القديم والطريق. وهي تمتد على خطين: خط يبدأ من الموانئ الساحلية الصينية ويصل إلى المحيط الهندي مروراً ببحر الصين الجنوبي، وانتهاءً بسواحل أوروبا. وخط يربط الموانئ الساحلية الصينية بجنوب المحيط الهادئ.

إنَّ معنى هذا كله أن الطريق الجديدة بخطوطها ومساراتها البرية والبحرية تمر وتربط بين أكثر من ستين دولة في قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا، فتربط وتستوعب أربعة مليارات نسمة ونصف المليار. ويبلغ حجم اقتصادياتها تريليون دولار أمريكي؛ أي حوالي ثلاثين بالمائة من حجم الاقتصاد العالمي الحالي. إنَّ الخطوة الأولى الضرورية لتحقيق المشروع تتعلق بشق الطرق أو إنشائها، ومد السكك الحديدة في المناطق المنتشرة على خطوط الطريق. وغرض هذه المنشآت الأساسية ضمان سلاسة الشحن البري والبحري والجوي. والحفاظ -بالتعاون بين هذه الدول الواقعة على شبكات التواصل العملاقة هذه- على مد أنابيب النفط والغاز، وبناء الممرات العابرة للحدود للطاقة الكهربائية. وذلك إضافةً إلى توصيل كابلات شبكات الاتصال التي سمتها الوثيقة الصينية مجازاً "طريق الحرير المعلوماتية".

إنَّ المشاريع التنموية المثيرة والكبيرة والمتشعبة تتطلب دعماً ماليًّا كبيراً لا يمكن توفيره إلا بالتعاون الدولي؛ لذلك فقد بادرت الصين إلى أمرين اثنين: إنشاء صندوق طريق الحرير الذي يهدف للاستثمار في المشروعات المعنية. كما أنشأت في خطوةٍ ثانيةٍ: البنك الأسيوي باستثمار في البنية التحتية (AIIB). وقد أعلنت حتى الآن زهاء الستين دولة عن الانضمام إلى المشروع في القارات الخمس بوصفها أعضاء مؤسسين في البنك الاستثماري. ومن هؤلاء معظم الدول الصناعية الكبرى باستثناء الولايات المتحدة واليابان وكندا. أما من الدول العربية فقد انضمت كل من عُمان والسعودية والكويت والإمارات وقطر والأردن ومصر. ومن الملاحظ -كما يقول شوي تشينغ قوه: عميد كلية الدراسات العربية في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين -مشاركة دول متناقضة المواقف السياسية في هذا المشروع العالمي، وهذا أمر له دلالات كبيرة على تلاقي المصالح، وإمكان تجاوز الخلافات باتجاه عالم مزدهر وأكثر أمناً وتضامناً.

إنَّ الواضحَ والبارز من المبادرة الصينية الجوانب الاقتصادية والتجارية بالطبع؛ لكن الجوانب الإنسانية والتواصلية الثقافية والفكرية لا تقل أهمية ودلالة؛ إذ إنَّ المبادرة تعني تعزيز التبادل الثقافي والفكري والأكاديمي والإعلامي. ولذلك أو بغرض تحقيق ذلك فإن الصين بادرت لتقديم عشرة آلاف منحة لطلاب من سائر أنحاء العالم، وينتمون إلى بلدان على خطوط المبادرة وشبكاتها، من أجل الدراسة في الجامعات الصينية المتخصصة في الميادين التكنولوجية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والتواصلية. ثم إن الصين بدأت برامج ثقافية مع الدول المنضمة إلى المشروع. وقد طرح الأستاذ شوي تشينغ قوه تساؤلات قال إنها من ضرورات المشروع وحاول الإجابة عليها. وهذه التساؤلات هي:

1- لماذا هذه المبادرة الآن؟

2- أهمية المبادرة للدول العربية في ظل الاضطرابات التي تعاني منها المنطقة.

3- لماذا لم تدخل الولايات المتحدة وبعض حليفاتها في المبادرة، وهل يعني ذلك اصطفافاً جديداً؟

4- هل تختلف هذه المبادرة عن عملية العولمة المتوحشة التي تشكو منها دولٌ كثيرةٌ، وبعبارةٍ أُخرى: هل ستكون المبادرة أكثر رحمةً وإنسانية؟

لقد تجمَّعتْ لدى الصين قدرات مالية ونقدية ومنتجات كبرى، وصارت ثاني اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي مباشرة، وهي بسبب هذه الضخامة المنقطعة النظير -والتي أخرجت البلاد من عالمٍ إلى عالمٍ آخر في قفزة هائلة- تتعرض لمشكلاتٍ بارزة في التطوير الاقتصادي؛ مثل: ظهور فوائض كبيرة في الإنتاج، كما أنَّها منعت الطلب على السلع الجديدة في الأسواق المحلية، كما أنها تُعاني من صعوبات في التجارة مع الدول الغربية بسبب الإجراءات الحمائية. ويقتضي ذلك كله خلق دوافع جديدة لنمو مستدام، ويحتاج الأمر إلى تواصل كبير خالٍ من الخصومات أو متجاوز لها؛ لأن كل الصعوبات يمكن تجاوزها بالتواصل الجاد، والتعامل مع المشكلات مهما بلغت ضخامتها بعقلانيةٍ وآفاق شاسعة للتفكير والتقدير والتدبير.

ويرى الصينيون أن المبادرة لن تكون مفروضةً لا بالقوة العسكرية ولا حتى بالاقتصاد المعولم. فالدول تنضم إليها اختياراً، وتستفيد من الانضمام، ولا تتضرر من عدمه. وهذا الترابط، صحيح أنه ينطلق من الصين؛ لكنه يربط دول الجوار القريب والبعيد، ويُراعي الخصوصيات والثقافات المحلية؛ بل إنه يعين على نشر اللغات والثقافات، كما كان عليه الأمر في طريق الحرير القديمة. وبالإضافة إلى هذا العامل الإنساني الكبير في التواصل؛ فإن المبادرة تقوي الاندفاع في الاقتصادات المتقدمة، وتعالج أيضاً مسألة نقص رأس المال في اقتصادات الدول النامية الواقعة على خطوط وشبكات المبادرة، والمنضمة إليها. ثم إن هذه الدول التي تترابط اقتصاداتها إلى هذا الحد تضع النزاعات والتقاطُع وراءها، وتنطلق باتجاه عالمٍ آخر من التفاهم من طريق التواصل والتبادل، من أجل الازدهار، ومستقبل آخر للبشرية.

ولقد رأى خبراء عربٌ أن الدول العربية التي انضمت للمبادرة أو ستنضم إليها لا تكون بذلك قد انحازت إلى جانبٍ على حساب الاقتصاد الأمريكي؛ وذلك لأنَّ المبادرة استيعابية، وتنفتح على نمطٍ جديد من العلاقات الاقتصادية والإنسانية. وهي في الحقيقة يمكن أن تتحول إلى نمطٍ جديدٍ وبناءٍ في عالم تتضاءلُ فيه الصراعات، ويشيع فيه التفاؤل. وهكذا فالحديث والعمل على عالم جديد لتجاوز صراعات الأقطاب السياسية والإستراتيجية. ويمكن أن تكون بالنسبة للعرب تجديداً لممارساتٍ قديمةٍ، حين كانوا يتجولون في آسيا الوسطى وتركستان وصولا للصين، كما كانوا -وعلى مدى قرون- يقطعون المحيط الهندي، ويقيمون الدول والحضارات على سواحله، ويتواصلون مع الصين والهند دون نزاعاتٍ ولا حروب. وإذا كان هذا كله لا يجيب عن سؤال العلاقات بين الأقطاب، والذي ورد في التساؤل؛ فإنه يجيب أو يدعو إلى إمكانياتٍ أُخرى للدول العربية والشعوب الآسيوية والأفريقية والأوروبية. وهذا على أي حال أمرٌ يتجاوزُ الصراعات القطبية، وإن لم يَخْلُ من التنافس. إنه "الاعتماد المتبادل" القائم على وحدة مصير العالم.

إنَّ الدول العربية تُعاني اليوم من نزاعاتٍ داخلية وأُخرى مع دول الجوار والعالم. وطريق الحرير الجديدة تطرح إمكانية كبيرة للنمو الاقتصادي الذي يهدئ الصراعات، ويتيح الفرصة للتبادل الذي يُحسن العلاقات. وتستفيد الدول العربية النامية من شبكات المواصلات الحديثة، ومن شبكة المناطق الحرة، ومن شبكات النقل الطويلة للنفط والغاز والقنوات الكبرى لنقل المياه, وقبل ذلك وبعده من الامتداد الكبير للتعاون الثقافي والتواصل الإنساني. وفي هذا السياق، لا يبقى هناك مجالٌ للمضي في الصراع من أجل الصراع، بل يمكن أنْ يكون الكُل رابحاً في عالمٍ ومنطقة يتضاءل فيها النزاع.

إنَّ من المهم بالنسبة للعرب والعالم أن تسود مبادئ التعاون والتبادل والمنفعة. والكسب المشترك، وهي قيمٌ وممارساتٌ شكلت روح طريق الحرير القديمة. وقد كانت تلك الطريق صلة وصل ونقل للسلع بين الصين وعوالم المشرق. والمبادرة الصينية تضيف لذلك الآن تطويراً وروحاً جديدةً مشتركة، تستطيع أن تُضيف إلى العلاقة الصينية-العربية أبعاداً جديدةً في نظرنا، ليس من حيث حجم السلع المتبادلة؛ فهي كبيرةٌ جدًّا الآن أيضاً، ولكن من حيث الروح التنموية، التي تريد حل المشكلات من طريق التنمية الكبرى والإنسانية، وهي النسج الذي ميز النهوض الصيني، ويمكن أن يكون عاملاً بارزاً في النهوض العربي بالتعاون والتضامن ضمن الشبكة الهائلة والإنسانية والتي تقيمها المبادرة الصينية.

تستفيد الصين بالطبع من المبادرة، ويمكن عدها -في أحد أبعادها- سبيلاً آخر وجديداً للسلع الصينية؛ لكن العرب والأفارقة يستفيدون كثيراً جدًّا أو يمكن أن يستفيدوا -إن أرادوا التعاون- تنمية وتطويراً وتجاوزاً للتخلف والنزاعات، وتواصلاً ثقافيًّا وإنسانيًّا رائعًا مع عوالم الصين، وعوالم الشرق الأقصى الناهضة.

طريق الحرير هو -أولا وقبل كل شيء- ثقافة؛ هو هذا الحنين إلى طريق الحرير بوصفه كان على مر السنين طريق تواصل ثقافي بامتياز وبلا مدافعة.

ويتساءل صاحب كتاب "مدخل وجيز إلى طريق الحرير" في خاتمة كتابه: لماذا لم يمت طريق الحرير أبدا؟ ومن بين عناصر الإجابة التي يتقدم بها أن طريق الحرير ما كان أبدا طريق البضائع فحسب، وإنما كان طريق الأفكار أيضا. لم يكن هذا الطريق إذن طريقا لنقل البضائع وحدها ولهذا لم يمت. فحين افتُرض موتُه بدءا من نهاية القرن الخامس عشر، فإنه -وعلى مدى القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر- كانت الأديان تَعْبُر، وكانت مختلف الروحانيات تَنْشَطُ.لذلك لم تكن عوالم أبو عبيدة عبدالله بن القاسم والنضر بن ميمون وابن بطوطة و بزرك بن شهريار وسليمان التاجر العماني وأبو زيد السيرافي ومحمود الكشغرجي والسندبادوأحمد بن ماجد وسليمان المهري عوالم خيال أو نزاع في تواصلهم مع بلدان هذا المحيط في طريق الحرير. وعوالمنا التعاونية مع طريق الحرير الجديدة هي عوالم تضامن وسلام وتقدم إن توافرت الإرادة والهمة.

تعليق عبر الفيس بوك