أمانة القلم والكتابات المفلسة

عيسى الرَّواحي

لا خِلاف في أنه يحقُّ للكاتب أن يُعبِّر عن وجهة نظره، ويحقُّ له أن يطرح رأيه وفق ما يراه؛ إيماناً بمبادئ احترام وجهات النظر وحرية الرأي والتعبير عنه، بل هي من الحريات التي كفلها النظام الأساسي للدولة الذي نصَّ في المادة (29) على: "حرية الرأي والتعبير عنه بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير مكفولة في حدود القانون"، ولكن بالمقابل ينبغي لصاحب الرأي والكتابة أن يتوخَّى الدقة والعدالة والموضوعية في طرحه؛ حيث لا يحقُّ له قطعا أن يهاجم مجتمعا بأكمله لمجرد مخالفتهم وجهات نظره، ومرفوض جملة وتفصيلا أن يرى آراءهم المخالفة لرأيه بأنها ضلال مبين، فكل من يحمل فكرا أو يرى رأيا فإنما يعبِّر عن وجهة نظره، ولكن ليس من حقه أن يُلزمنا بها، وليس من حقه أن يُهاجم كلَّ من يعترضه، وليس من حقه إطلاق التهم تعميما للجميع لا يستثني فيها أحدا.

نعم، فقد طالعتنا إحدى الصحف المحلية قبل أيام بكلام مُفلس لأحد الكُتَّاب أساء فيه بشكل واضح وصريح إلى كرامة كل مواطن يعيش على هذه الأرض الطيبة، فقد اتخذ من التعميم ديدنا فيما يكتب في أكثر من مرة، مبينا في آخر كتاباته أنَّ الكلَّ صار يئن من إجراءات الحكومة التي اتخذتها مُؤخراً في ترشيد الإنفاق، وأنه لا يوجد مواطن يشكر ربه على ما حدث من إجراءات عادية جدًّا، غير مستبعد أنْ يأكل المواطنون بعضهم بعضا في حال كانت الدولة من غير موارد، وكأننا في نظَرِه سنتحول إلى وحوش كاسرة وسباع مفترسة نعيش في غابة يأكل فيها القوي الضعيف، موضحا أنَّ إجراءات الحكومة مؤخرا قد حرَّكت فينا البواعث والخبائث، كما أنَّ نقد المواطن إنما هو جحود ونكران يخرج من اﻷفواه سموما، ويا للعجب كيف يطلق الكاتب مثل هذه التهم، ويعبر عنها بهذه الطريقة السيئة، ويعمم كثيرا من تهمه على الجميع دون استثناء؟! وكيف تسمح الصحيفة بنشر مثل هذا الكلام؟! ومن العجب أيضا وغير الجائز شرعا أن يسوق الكاتب ضمن تعابيره الخاوية شواهد قرآنية في غير محلها، ويوظِّفها وفق رؤيته الضيقة، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه "كلام حق أُريد به باطل".

إنَّ مثل هذه الكتابات الإنشائية المفلسة غير المستندة إلى منهجية علمية ولا أدلة ولا حقائق، ولا تحمل في طياتها رسائل إيجابية مفيدة للمجتمع، نرى أنها لا تثير إلا الشحناء والكراهية، ولا ينبغي لأسرة تحرير أي صحيفة أن يسمحوا بنشرها؛ فكما أنَّ النقد الحاد تجاه بعض السياسات الحكومية يمنع أحياناً من النشر، فكل ما يسيء إلى كرامة المواطن وسمعته ينبغي -بل يجب- أن يُمنع من النشر أيضا، حتى مع تسليمنا بأن الصحيفة توضِّح أعلى بعض صفحاتها بأن الآراء المنشورة تعبِّر عن وجهة نظر كاتبيها وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الجريدة. فلا يعني ذلك أن الكاتب يحق له أن ينشر كل ما يحلو له، حيث تنتهي حرية الكاتب عندما تبدأ حرية الآخرين؛ فالصحيفة في حقيقة الأمر مسؤولة عن المادة التي ينشرها كل كاتب، ولابد من التوفيق بين حرية رأي الكاتب وبين الأسس العلمية في الكتابة، والخطوط الحمراء التي لا يحق له أن يتجاوزها، وهذا ما أشارت إليه المادة (31) من النظام اﻷساسي للدولة "حرية الصحافة والطباعة والنشر مكفولة وفقًا للشروط والأوضاع التي يبينها القانون. ويحظر ما يؤدي إلى الفتنة أو يمس بأمن الدولة أو يسيء إلى كرامة الإنسان وحقوقه."

إنَّ المقالات المبنية على أسس ومنهجية، وذات طرح علمي رصين، فإنه في حال اختلفنا معها في الطرح ووجهة النظر، فإنه لا مانع من باب الفائدة أن نكتب وجهة نظرنا التي تخالف وجهة نظر كاتب ذلك المقال، ولكن حين يصبح المقال هرطقة، وحشوا زائدا وكلاما مفلسا، وديدن الكاتب في أغلب كتاباته، فإنَّ الرد قد يكون من باب إضاعة الوقت. واللغو في القرآن الكريم ينبغي الإعراض عنه لا التصدي له، والجاهلون ليس معهم إلا خطاب السلام فحسب دون الخوض معهم في أحاديث ونقاشات، يقول الله تعالى في معرض وصف عباده المؤمنين: "وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ" (سورة المؤمنون: 3)، ويقول أيضا: "وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ" (سورة القصص: 55).

إنَّ الحقائق الثابتة التي نؤمن بها وأحسب أن غالبية الناس يشاركوننا الرأي فيها أنه لا كمال إلا لله وحده، ولا عصمة إلا لأنبياء الله ورسله، وأما غير ذلك فالجميع معرض للخطأ والسهو والنقص والتقصير، ولذا فإن ما يقوم به أغلب الكتاب اليوم، أو مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي من نقد لسياسات الحكومة أو اعتراض على بعض القضايا والتوجهات الحكومية إنما هي ظاهرة صحية، ومن سنن الله الكونية في أن البشر مخطئون ومقصرون، كما أنها من حقوقهم المكفولة لهم شرعا وقانونا، بل إنَّ نقد السياسات الحكومية وإبداء الملاحظات الجوهرية والمطالبة بالحقوق ورفض الظلم وقول كلمة الحق، إنما هي هدايا ثمينة يقدمها الكاتب المخلص والناقد البناء والناصح الأمين للوطن... والله المستعان.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك