الحرب الغائبة

فؤاد أبو حجلة

كيف يمكن للإعلامي العربي متابعة كل ما يجري في المنطقة دون أن يصاب بالجنون؟ وكيف يستطيع العقل البشري أن يستوعب وأن يهضم هذا الكم من التفاصيل المريعة المكتوبة بالدم؟ وهل يحتمل الكاتب حيرته المعذبة أمام العناوين الصادمة لاختيار موضوع مقالته؟

أعترف بأنني أقف عاجزًا أمام العناوين، وتقتلني حيرتي في المفاضلة بين الكتابة عن حرب أو تناول حرب أخرى في وطن تشتعل الحروب في جهاته الأربع.

هل أكتب عن سوريا ومأساتها المريعة في زمن الحرب التي لا يموت فيها إلا البشر الطيبون، أولئك الذين لم يتورطوا في الجنون، ولم يصطفوا مع النظام القمعي ولا مع معارضته الظلاميّة.

أم هل تجب الكتابة عن العراق الذي صار عراقات مقسمة بخطوط الطوائف وفتاواها وانحيازاتها المشبوهة.. وعن البلاد التي اختلط فيها الدم مع الماء في الرافدين وصار نخيلها مظلات للحزن وللدموع؟

ثم هل يمكن تجاهل اليمن الذي كان سعيدًا، وتجنّب الكتابة عن أهله المتدثرين بعروبتهم في زمن الخواء القومي. وكيف لا يكون الهم اليمني همًا ذاتيا وخاصا لكل منا، نحن المحاصرون بالهموم على امتداد بلادنا المبتلاة بجنون الصراعات الانتحارية؟

من منا يستطيع الهروب من شظايا الحرب المجنونة في ليبيا، ومن القهر وغصة الروح أمام حروب الميلشيات التي تقسم الدولة إلى دول قبلية وأخرى سلفية وتتاجر بالنفط الليبي وبالدم الليبي الذي يسيل دفاعًا عن أجندات غريبة وغير مفهومة؟

هذ حروب أربعة لا نعرف كيف بدأت وكيف ومتى ستنتهي، وهل تنطفئ نارها أم تتدحرج كرات لهبها لتشعل تراب الجوار وتحرق من يتبقى من عرب الألفية الثالثة.

وحين نحاول الهروب من الحروب والبحث عن ملاذات آمنة لا نضطر فيها للاصطفاف مع أو ضد أي طرف أو مكون، يصدمنا واقع التخندق المجتمعي في الدول المستقرة، وتحيّرنا الانحيازات العصبيّة التي تقسم الناس إلى سنة وشيعة وموالين ومعارضين متحفزين للحظة الصفر في بلادهم، ويرعبنا هذا الحماس والتوثب للحسم بالدم في بلاد تحصل على رغيفها بشق الأنفس.

في مشرق الوطن ومغربه تخاض الحروب بالسلاح أحيانا والمواقف السياسية أحيانا أخرى والإعلام الموجه في كل الأحيان، والمطلوب من الصحفي ومن الكاتب العربي أن يصطف الآن ضد بعض أهله، وأن يصطف في اللحظة المحرجة ضد بعض نفسه لكي يظل على قيد الوظيفة أو لكي يظل على قيد الحياة.

الأنظمة المتورطة في الحروب تسجن وتقتل الإعلاميين، والتنظيمات المعارضة المتورطة في سفك الدم تلاحق الصحفيين والكتاب بالتهديد وبالاغتيال.. والحقيقة دائمًا غائبة، لأنّ أصحاب الأيدي المرعوبة والمرتجفة لا يجرؤون على نقل الواقع أو رؤيته بعيون صافية غير مصابة برمد الانحياز.

لذا نحاول الابتعاد عن الموقف، وتكون مقالاتنا مجرد تهويمات وهذيانات عن الحب في زمن الحرب، وعن الرفاه المأمول في زمن الجوع والفاقة، وعن تكنولوجيا المعلومات في زمن حجب الحقيقة.

أعترف بالحيرة وباليأس وبالخوف من الحاضر ومن القادم رغم أنني لا أصطف مع طرف ضد آخر، ليس خوفا من عواقب الاصطفاف ولكن لقناعتي بأن الجنون شامل، وأن الكاتب العربي في هذا الزمن المجنون ينبغي أن يكون على مسافة واحدة من كل أطراف الحروب.. وينبغي أن يكون ضد كل المتحاربين.

ربما يعبر هذا الإحساس عن مثالية غير مبررة وغير مفهومة، لكنها مثالية صورية، فأنا أيضا أريد الحرب، وأبحث عن حربي ولا أجدها.. أعني الحرب الوحيدة المبررة والمقدسة وهي الحرب على إسرائيل، ليس دفاعا عن فلسطين فقط، وإنما دفاعا عما تبقى من أرض العرب.

أعرف أنني أفكر خارج الصندوق، وأعرف أنّ هناك من يسخر الآن من حلمي.. لكنني سأظل أحلم.

تعليق عبر الفيس بوك