النفط وما أدراك ما النفط!

زاهر بن حارث المحروقي

هل كان النفط بالنسبة للعرب نعمة أم نقمة؟ هذا سؤال يجيب عنه كلُّ إنسان حسب موقعه واستفادته من فترة النفط، فيرى البعض أنّ النفط كان نعمة كبيرة لشعوب الخليج؛ إذ به تمت التنمية فانتقلت دول المنطقة من التخلف إلى التطور، والتطورُ المقصود هنا هو تلك العمارات والأبراج والشوارع التي تُشَاهد في كلِّ مكان في الخليج-، فيما يرى الآخرون أنّ النفط كان نقمة كبيرة، لم يعد للإنسان الخليجي بفائدة تُذكر غير حياة الرفاهية؛ وهي التي لم تستمر لأنّ أضرار الاعتماد على النفط كانت أكثر بكثير من المنافع.

إنّ الطفرة التي حدثت في أسعار النفط في بدايات سبعينيات القرن الماضي، ساهمت في قتل كلِّ إبداع في الإنسان الخليجي، الذي أصبح مجرّد مستهلك لكلِّ شيء، دون أن تهتم الحكومات بالإنتاج، وفي الحالات التي لجأت فيها الحكومات إلى الإنتاج فإنّ هناك أيدي عاملة جاءت لهذه الدول من الدول العربية والآسيوية، فقامت بكلِّ الأعمال، فيما لجأت الشعوب إلى الراحة، مستغلة كلَّ ما يأتيها جاهزاً ومصنوعاً في الخارج، فلم تقم لا صناعة ولا زراعة، بل قامت مكانهما الاتكالية في كلِّ شيء، شاركت في صنعها الحكومات والمواطنون أنفسهم، إذ اكتفوا بما تجود به الحكومات وكأنها نعمة دائمة، ونشأت في دول المنطقة لوبيات فساد بالمليارات على حساب الشعوب التي رضيت بالفتات، وساهمت في تدمير نفسها بنفسها، فانتشر ما يعرف بالتجارة المستترة، بل إنّ أخلاق الإنسان الخليجي نفسه تغيرت، وصار يوصف بـ "البطرة"، ولمّا اهتزت أسعار النفط (ولم ينضب بعد)، إذا بالمستور ينكشف.

لم تكن نقمة النفط مقصورة على أبناء الخليج وحدهم؛ بل تعدت ذلك إلى المواطنين العرب، الذين اعتمدوا على العمل في الخليج على حساب أوطانهم، فتغيّرت ثقافة الناس إلى الإستهلاك، إذ أصبح العمل في الخليج حلم معظم الناس، كما تراجعت الثقافة العربية وكذلك الإعلام والإنتاج في كلِّ المجالات، فاختفت دولٌ كانت رائدة في مجالات كثيرة مثل مصر وسوريا والعراق، وأصبح من يملك المال يدير دولاً كانت تقود الأمة يوماً مّا، ووصل الحال بهذه الدول النفطية أن تملك بفضل مالها الإعلام العربي كله، المسموع والمقروء والمُشَاهَد، وإلى شراء السينما العربية، التي هبطت إلى الحضيض أكثر مما كانت عليه في الأصل.

في المحصلة النهائية فإنّ دول الخليج باعتمادها على النفط دون أن تلجأ إلى بناء اقتصاد قوي وبديل، ودون أن تهتم بتكوين الإنسان، أصبحت دولاً "عجوزاً"، وهو مصطلح استخدمه المفكر جلال أمين في كتابه "ماذا علمتني الحياة؟" عندما حكى قصة رحلته إلى تسع دول آسيوية عام 1975، إذ اكتشف أنّ هناك أمماً يمكن وصفها بأنها أممٌ عجوز وأخرى فتيَّة، وهذا التمييز يتعلق بالموقف النفسي للشعب أكثر ممّا يتعلق بتاريخها أو نظامها السياسي أو الاقتصادي أو مواردها، ويصف الدول الفتية أنها تتقدم بسرعة، أو هي مؤهلة للتقدم السريع، بينما الأمم العجوز ثابتة في مكانها لا تكاد تتحرك، وأملُها في التقدم ضعيف للغاية، ولكي نعرف ما هي السمات التي دفعت جلال أمين إلى وصف المجموعة الأولى بالفتوَّة، فلأنّ شعوبها بدت له وكأنها تأخذ الأمور مأخذ الجد، فيحاول عُمّالها إتقان ما يقومون به من أعمال، أو ما ينتجونه من سلع، ويشعرون بالفخر إذ يتقنون أعمالهم، أما شعوب المجموعة الأخرى، فقد بدا له وكأنهم يشعرون بأنه "لا شيء يهم"، وكأن لا شيء يستحق منهم بذل الجهد وتحمل العناء، وكأنّ العمل المتقن ليس أفضل كثيراً من العمل غير المتقن، كلّ شيء سواء، والأمر كله في نهاية الأمر عبث في عبث.

إنّ الشعوب التي تعودت على الكسل وعلى الأخذ دون أيِّ عطاء، ولا يهمها إلا جيوبها فقط، تجدها دائماً تُطبِّق المبدأ الذي أشار إليه جلال أمين وهو "لا شيء يهم أبداً"، طالما أنّ الرواتب تأتي، وأنّ المتطلبات الأساسية متوفرة لحد الاهتمام بالكماليات، وهذا في رأيي ينطبق على الشعوب الخليجية، التي لم تبذل أيّ جهد وإنما فتح الله لها خزائن الأرض فجأة، فنسيت معاناتها الطويلة دون الاهتمام بالمستقبل، وعندنا هنا مثلٌ؛ فعندما يأتي صحفيٌ ويركز على قيمة العمل والعطاء وأنّ كثرة الإجازات تضر بالإنتاج؛ إذا بفئة تثور عليه، لدرجة أن ينسى الكثيرون مناقشة ما يكتبه ويركزون فقط على شخصه وعلى تناوله هو دون مراعاة لأيِّ حرمة؛ وفي الغالب فإنّ كثيراً من الناس ينظرون إلى المسائل من وجهة نظر ضيّقة فقط، كما أنهم ينظرون إلى فترة زمنية معينة، وهذا من الأخطاء؛ فحالُنا في عمان ليس بأفضل من حال الآخرين في الخليج، إذ اتكل الشباب على انتظار "التعيين" في الدولة، رغم أنّ فرص العمل موجودة، وإلا فما معنى أن يكون عدد الأجانب يتساوى مع عدد المواطنين الآن؟ ألا يدل ذلك على وجود خلل مّا في التخطيط؟

الأمور - كما يبدو - لا تبشر بخير، ومن الصعب أن نطلب من الناس أن يتحملوا الآن وحدهم أخطاء التخطيط في السنوات الماضية، ولكن المسألة تحتاج إلى وضع خطط عاجلة وآجلة حتى تمر الأزمة بسلام؛ تأخذ هذه الخطط في الحسبان وضع حلول مستقبلية وليس حلولاً ترقيعية، كما حدث عام 2011، عندما تمت التعيينات بغير دراسة وافية ممّا أتخم الوزرات والهيئات الحكومية، وكذلك عندما تم رفع الرواتب بشكلٍ غير مدروس بعناية؛ وإذا كانت الحكومة قد نجحت في السياسة الخارجية، ونجحت في الحفاظ على الأمن الداخلي، ونجحت في العبور بسلام في أزمة عام 2011، إلا أنّ نجاح الشق الأمني لا بد أن يتأثر (في أيّ مكان في العالم) إذا انهار الاقتصاد، ممّا يتطلب بذل المزيد من الجهود للحفاظ على استقرار الوطن، فلا ينبغي التهويل من المشكلة، ولا ينبغي الاستهانة بها أيضاً - كما يحصل من البعض -، كأنْ يتم مطالبة الناس بأن يلزموا الإستغفار فقط، فالإستغفارُ عبادةٌ ولكن وحده لن يحل المشكلة إذا لم تكن هناك خطوات جادة للبحث عن الحلول، والبحثُ عن الحلول يجب أن يكون واضحاً للناس وبكلِّ شفافية، لأنّ كثيراً من الناس قد فقدوا الثقة في كلِّ ما يذاع ويُبثُّ، لأنّ مصطلح "تنويع مصادر الدخل" تردد كثيراً عبر هذه الوسائل وعلى ألسنة المسؤولين طوال سنوات كثيرة مضت، ويبدو الآن أنه كان مجرد مصطلح يتردد في وسائل الإعلام، ممّا أفقد الناس الثقة، أضف إلى ذلك، المشاريع المتعثرة، والمبالغ الخيالية لمشاريع لا تستحق كلَّ تلك المبالغ، ممّا يُشتمُّ منه رائحة الفساد، ويضاف إلى ذلك الإستدانة من الخارج لتصريف أمور الموازنة العامة للدولة.

من حق الناس أن يقلقوا، لكن ليس لدرجة أن لا يصل الأمر إلى "النظرة السوداوية"؛ فالمشكلةُ هي أن يصبح كلُّ أحد محللاً اقتصادياً، وهذا أدى إلى انتشار الكثير من الشائعات عبر الواتساب، ونعترف أنّ هناك قصوراً كبيراً في التخطيط - وهذه حقيقة -، ولكن لا يعني ذلك أن نرمي بأيدينا إلى التهلكة، لأنّ عواقب ذلك ليست سهلة، وإذا كان الناس يخشون من ارتفاع الأسعار، فالواجبُ يحتِّم على الدولة أن تتدخل وبقوة ضد أيِّ ارتفاع مبالغ فيه، فلا أظن أنّ رفع الدعم عن المحروقات يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع الأسعار بطريقة مجنونة.

هل استفاد الناس من النفط؟ وهل كان نعمة أم نقمة؟ وهل ساهم في بناء الإنسان العربي؟ أو جعله مجرد مستهلك؟ المنطق يقول إنّ الحكومات ستدفع من الآن ثمن أخطائها لأنها لم تؤهل الإنسان التأهيل الصحيح، ولم تستعد لهذا اليوم، ممّا يطرح عدة أسئلة: لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ هل يكمن الخلل في العقل أم في الولاء أم في الإخلاص، أم فيها جميعاً؟!

تعليق عبر الفيس بوك