معاركُ رجلٍ في الأربعين

عبدالله خميس

(1)

للأربعين معاركها. للأربعين الكثير من المعارك الجارية. بعضها محمول على الأكتاف منذ سنوات أسبق، وبعضها قيد الوقوع. منها ما سيخبو خلال فترة بسيطة، ومنها ما سينتقل لسنين العمر القادمة.

(2)

يفكر في نفسه أنّ الأربعين قد جلبت له بعض الراحة. لقد أصبح أقل قلقا إزاء بعض الأمور. أبسطها أنّه قد قضى أكثر من 15 عاما موظفا حكوميًا، وقد وصل راتبه إلى مستوى مقبول (قياسا بما بدأ به). سلفية بيته قد مضى نصفها. ويبدو أنّه و زوجته قادران على إكمال الدرب (رغم صراعاتهما المتكررة). أطفاله الثلاثة يملأون حياته (ولكن يزعجه إصرار زوجته على ضرورة مجيء الرابع). لا يبدو أنّ تهديدًا كبيرا يتربص بخط حياته العام. ثم يتدارك ويسأل نفسه: ماذا عن الصحة؟!

لا يتذكّر أيّهما حدث أولا، ضعف البصر أم إصابته بالسكري. عالج الأول بالنظارة لرؤية الأشياء البعيدة، فإذا الأشياء القريبة تصبح هي العلة. صار يبدّل بين نظارتين. اشترى مرة نظارة فيها القريب والبعيد، علاجان في واحد كما زعم له المحل الذي أخذ 350 ريالا لقطعة من الزجاج. ارتداها فأصبح البعيد ضبابا وأمسى القريب دخانًا. قالوا له ستتعود عليها، لكن ذلك لم يحدث. فعاد إلى مسألة النظارتين وأخذ يفكر: ليتني قرأتُ أكثر عندما كان نظري أفضل.

فكّر في جراحات الليزر الحديثة، لكن شيئا ما فيه يجعله يخاف خوض أية جراحة. لماذا عندما يكبر المرء يرفض الجِرَاحات ويختار التعايش مع المرض؟ هناك من ماتوا بالسرطان وسواه لأنّهم رفضوا إجراء الجراحة. هناك رجل عجوز يعرفه أصيب بالعمى الكامل لأنه رفض جراحة صغيرة لعينيه قائلا: "بو باقللي ذا النظر. إنْ خاسوه موه هيبقالي؟". أما السكري فلا يبدو بالنسبة له أنّه أسهل من أزمة جراحة الليزر. على العكس من ذلك، فهو يدرك أنّ الحل بسيط: المشي وتنظيم الغذاء. ولكن من ذا يقول أنّ هذا بسيط؟ هذا يعني باختصارٍ الكثيرَ من التغيير في نمط الحياة، وهل التغيير سهل لرجل في الأربعين؟

(3)

عندما يسأله الرفاق عن رأيه في الزواج، اعتاد أن يقول: "60 بالمئة إيجابي و 40 بالمئة سلبي". الآن صار يقول: "شرٌّ لابد منه". منذ متى حدث هذا التحول؟ ولماذا؟

هو موقن أنّه وزوجته سيكملان الدرب. امممم، يقول ذلك لنفسه في أوقات السلام العائلي (وما أندرها)، أمّا في أوقات الشدة، فقد فكّر في الطلاق ما لا يقل عن ست مرات بجدية تامة. ما مشكلته مع زوجته؟ هي مشكلة جميع الرجال، لا شيء خاص أبدًا. "النساء يحببن المشاكل. يتلذذن باختلاقها. يحببن أن يرين حياتك كسيحة معطلة لأسباب مجهولة، وحين ينجحن في ذلك ويعطلن حياتك يتهمنك بأنّك عديم النفع!"، هكذا يقول. هو يعرف أنّها ليست مقولته الخاصة به، فخلفان وعلي وسعيد وسليمان وسويلم راعي الفرصادة يقولون نفس الشيء. خلفان يقول له: "طنّش تعش تنتعش". أمّا سعيد فيفكر في الزوجة الثانية وينصح صديقه بها، ويقول "الحرمة ما شي يأدبها غير حرمة غير". لكن ذلك لا يبدو مقنعا له، فالمتأدب الحقيقي "اللي ماشي على عجين ما يلخبطوش" هو الزوج. إنّه الزوج دائمًا. هو متأدب بوجود زوجة واحدة، فماذا سيحل به لو جاءت "كارثة" ثانية؟ لا شك أنّه سينفجر لفرط الأدب! هكذا يرد على سعيد، ويردد له مثلا سمعه منذ سنوات في فيلم مصري: "قل لا تتزوج اثنينِ. أنا من وحدة طِلْعِتْ عيني". في الحقيقة، لا تستعصي فكرة على فهمه أكثر من فكرة أنّ زوجًا منكوبًا بسبب زوجته ومع ذلك يقرر الزواج بامرأة ثانية! لا يبدو له أنّ في الأمر شيئا من المنطق، فكيف تعالج جرحك بنفس النصل الذي أدماك؟ لكنّهم يفعلون هذا كثيرا في هذا البلد، فهل ينجح العلاج؟

نصحه سويلم راعي الفرصادة أن يعيد قراءة كتاب (الرجال من المريخ.. النساء من الزهرة)، فهو -على الأقل- حلٌّ أرخص تكلفة، لكنّه أصبح موقنا أنّ حلول هذا الكتاب ونظيراته مثالية، وأنّ قراءة الكتاب لا معنى لها إن لم يقرأ الطرف الآخر الكتاب أيضًا ويتناقشان فيه. هل يمكن أن يكون حل مشكلة أزليّة عامة شديد البساطة بهذا الشكل، ومتوفرا هكذا؟ ربما عليهما أن يجربا ذلك!

مرة قال لزوجته: "كنا سنصبح صديقين رائعين لو لم نكن أزواجًا". هل المشكلة، إذن، في الزواج وليست فيهما؟ وهل لهذه المشكلة حل في مجتمع لا يعرف إلا الزواج صيغةً معترفا بها للعلاقة بين رجل وامرأة؟

(4)

نعم قد ارتفع راتبه عمّا كان عليه في بداية مشوار حياته الوظيفية، لكن أوجه إنفاقه قد ارتفعت أيضا، وأصبح مسؤولا عن آخرين. لا عن نفسه فحسب.

عشر سنين تبقّت على قسط البيت. إذن هي عشر سنين قبل التقاعد. هو لم يعد يطيق عبودية الوظيفة، ولم يدّخر في حياته قرشًا أبيض ليعينه في يومه الأسود. وها قد حلّ اليوم الأسود. لن تكون هناك أعوام أسوأ من هذه السنة والتي تليها. إنّه انهيار عام. سيتضرر فيه مثلما سيتضرر جميع البسطاء. خطّة التقاعد التي كان يفكر فيها قبل عام أصبحت ضربًا من الخيال. كان يفكر أنّه إذا تقاعد فسوف يؤسس عملا آخر يعزز دخله، ولكن ها هي الأعمال تتهاوى من حوله، والانهيار مرئي على مد البصر.

أتراه يخادع نفسه عندما يقول أنّ الأربعين قد جلبت له بعض الراحة و الطمأنينة؟ تبدو له الصورة هكذا من الخارج أحيانًا، لكنّه عندما يفتت التفاصيل يجد أن السوس ينخر كل شيء. الصحة والمال والحياة الشخصية والمستقبل الآمن. ومع ذلك، يحتاج إلى طمأنة نفسه، ويثق أنّه ما يزال قادرًا على أنْ يُحِبَ وأنْ يُحَب، وهذا تقريبا يكفيه.

(5)

أمّا معركته الكبرى فهي أنّه لا يكف عن السؤال: هل كان مسار حياتي خاطئا على طول الخط؟ لو استطعتُ العودة للوراء، أكنتُ سأسلك شبرًا واحدا في نفس هذا الدرب؟

كم من معارك سأحمل معي للباقي من العمر؟ ولكن، ما الحياة أصلا إذا خلت من كل تحدٍ؟ ما الحياة بلا معارك؟

تعليق عبر الفيس بوك