ذاك زمان لعبنا به...!

إضاءة

مسعود الحمداني

(1)

تجتاحنا أحلام الطفولة، نزاحمها كفراشات الحقل، ونتلّون بألوان السماء، نسافر معها إلى حيث يصير الكون قصيدة، وننظر نحو البعيد، هناك حيث الغيب والمجهول يتناوبان مصائرنا، تتخطفنا الكلمات، وتشاكسنا الظلال التي تتبعنا كخراف، ونلاحقها ككلابِ صيدٍ جموحة، نتصورها بأشكال غرائبية تارة، ومألوفة كوجوهنا البائسة تارات أخرى، ونرسم بطباشير الأيام أفلاج الحياة التي لم نعشها بعد، ولكننا نتخيّل ما قد تكون.. وفي كل الحالات يخيب ظننا؛ لأن الأمنيات ليست إلا غيمات يسكبن رحيقهن ثم يمضين.

(2)

نطارد الماء الجاري في الساقية، ونركض خلف الغربان التي تأكل (الهمبا)، ونستظل بشجيرات الليمون، ونلتقط الرطب الذي ترميه لنا الطيور، نراقب مع كل إشراقة شمسٍ الطريقَ الباسطَ ذراعيه نحو الحقول الخضراء كزمردة تهب نفسها للسالكين.

نخرج كيمامات صغيرة من البيوت السعفية، ونسابق الشمس كي نبدأ قبلها بترتيب النخيل، والعودة بمحصول وفير، و(مخرافة) من الرطب النضيد اللامع كعينيّ صقرٍ ينظر نحو آكليه بشراهة وحب.

(3)

الطفولة بحرٌ ينام بهدوء عجيب، يحتضن البحارة بدفء وعشق، يحفرون خنادق الرمل وينامون براحة بال لا توصف، ويرحلون كل فجر إلى وطنهم الآخر (الماء)، حيث صحراء الرزق تحيط بهم من كل جهة، يعرفون كل شبر، وكل بقعة في هذا الأزرق الضخم الذي لا يرحم، رغم الحنان الذي يبديه كقطة تأكل صغارها حين تبدأ دورة الحياة.

(4)

السماء كانت أكثر زرقة، والنجوم كانت أكثر لمعانا، نراها، وترانا، نرفع رؤوسنا ونفتح أعيننا على مصراعيها بدهشة وكأننا نرى السماء والنجمات لأول مرة.. لم يكن بيننا وبينها حجاب..الزرقة تغطي كل ذرة في الأعلى، والشهب تنفلت كأسهم ثم تتلاشى، وتنطفئ ونحن نراقبها منذ البدء وحتى الممات.

كنا نشاهد كل شيء من حولنا، كنا أصدقاء للطبيعة التي تحيط بنا، كانت السماء (تلفازنا) المفضل، ومخيلتنا التي نشكّلها كيفما نشاء.. ونختزل معها كل تفسيرات الكون ببساطة وعفوية وطفولة بريئة.

(5)

الآن.. وقد كبرنا، وكبرت الحياة من حولنا، لم نعد نرفع رؤوسنا إلى السماء لنرى النجوم والشهب، ولم تعد النخيل صديقة لنا، بل ذهبت بحصادها إلى يد الغرباء الذين يستمتعون بـ(تنبيتها) و(خرفها)، و(جدادها) وكامل تفاصيلها، ونحن من يأكل فقط، تحوّلنا إلى المشهد الأخير من الحياة..حتى تغيّر طعم الرطب في ألسنتنا، وأصبحت كل الأشياء التي ألفناها ذات طفولة مجرد ذكريات تختزلها قلوبنا، وأرواحنا، ولن تشعر بها أجيال متعاقبة، أجيالٌ كل طفولتها أصبحت (إلكترونية) لا روح فيها.

زمنٌ ذهب بأهله.. وزمنٌ يعبث بطفولتنا، ويحوّل كل شيء حي إلى عالم افتراضي لا قلب له.

فذاك زمانٌ لعبنا بهِ.. وهذا زمانٌ بنا يلعبُ!

Samawat2004@live.com

تعليق عبر الفيس بوك