الإصلاح الإداري

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(31)

د. صالح الفهدي

دخل المدير الذي يرأس فريق التفتيش من أجل إجازة أحد المشاريع، وتوجه مباشرة لمكتب زجاجي قائلا: إنّ الشمس ستجلد ظهر الموظف الذي سيجلس في هذا الكرسي..! رد عليه صاحب المشروع: من أين تشرق الشمس؟ أجابه مستدركا: أقصد وقت الغروب..! رد عليه: هل تود أن تنتظر إلى الغروب لتشهد إن كانت الشمس ستؤذي الموظف، علق رئيس فريق التفتيش متلعثمًا: أقصد في وقت الصيف! رد عليه: وماذا يفعل المكيف هذا؟! نظر المدير إلى جهاز التكييف ومضى!! أدرك صاحب المشروع أنّ حلمه قد تبخّر، وأن من سيجلد ظهر الموظف ليس الشمس وإنما التعقيدات التي لا تنتهي..!!

هذا النمط من العقول منتشر، بل ومتجذر في القطاع الحكومي، لا يريدُ التغيير، ولا التيسير، ويأبى النظر في الأفق الشاسع، باحثا عن إعاقة المشاريع أكثر من تسهيلِ إجراءاتها وبهذه النوعيّات فإنّ الإصلاح الإداري لابد وأن يكون متجذراً، عميقاً وشاملاً..

لقد فرض التغيير نفسه على كل شيء سواءً أراد ذلك أم لم يرد لأنه سنّة الحياة ومن اعتقد بغير ذلك فهو لا يعرف الحياة، ولم يعتنق حكمتها، بل هو في متاهة التغافل يتخبط دون أن يمسك خيوط النور..! يقول الفيلسوف اليوناني هرقليطس: "لا شيء يستمر سوى التغيير".

وحينما يصبحُ الجهاز الإداري "مترهلاً" على حدّ وصف أحد الوزراء المؤثرين الذين يملكون وزناً في الحكومةِ فإن ذلك يدل على أن القضية قد تجاوزت مرحلة إغضاء النظر عما يكتنف هذا الجهاز من بطء في الحركةِ، وازدواجيةٍ في الأنشطة..!! يقول الدكتور مصطفى محمود:" الاعتراف بالحقيقة هو الأمل في إصلاح المسار" وما من شك فإنّ كل جهاز إداري لا يتعرّض للإصلاح من أجل تصويبه لخدمة الأهداف الوطنيّة التي أُنشئ لأجلها سيصاب ليس بالترهل وحسب بل وبالعطب والعطل أيضا..! يقول أحد أعضاء مجلس الشورى متسائلاً: "لماذا يوجدُ لدينا (60) وزارة وهيئة في دولة عدد سكانها (٤) ملايين ونصف؟!".

هذا الحديث عن الإصلاح لم يأت في ظلّ أزمة بل هو مطلب مستمر لأن المؤسسات الحكومية خاصّة تعاني من إشكاليات في القوانين، وكفاءات الأفراد، والقيادات، وتصريف الموارد، وإدارة المشاريع، والرقابة، والمساءلة وغيرها..! ومع ذلك فإنّ الإشكاليّة الكبرى التي ظهرت جليّةً هي عدم اتخاذ الخطوات العملية لتطبيق الاستراتيجية الوطنية في البحث عن بدائل اقتصادية أخرى.

لقد اتخذت إجراءات ترشيد الإنفاق في كثيرٍ من القطاعات وفي نظري فإنّ ما اتخذ إنّما هو إصلاح لترشيد الإنفاق كان يفترضُ أن يتم منذ أمدٍ بعيد، لأنّ مسؤولية الحكومة ليست ضمان الصرفِ على معيشة شعبٍ حاضر، وإنّما ضمان الموارد لأجيال المستقبل أيضاً، ولهذا يتعيّن أن تكون كل الإجراءات والأنشطة موجهة لتعزيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجيّة المتنوعة.

أمّا أن نقف في ظل أزمةٍ سببها تردّي سعر النفط لنربط به معاشُ أمّة، ونعترف تلميحاً بأنّ الخطط السابقة لم تتوجه نحو تنويع الدخل، وأن تنويع الاستثمار الحقيقي هو القادم، فتلك إشكالية تخطيطية أبعد من إدارة الأزمات لأنها إشكالية استراتيجية تتعلق بمصير وطن..!

لهذا فإنّ ما يجب أن يتحقق لا يحصر في تحقيق "الاستثمار الحقيقي" بل في الشروع بـ "الإصلاح الإداري الحقيقي" لأنّ الإدارة - كما قلتُ في حديث سابق هي أساس بناء الأوطان، وصناعة الإنسان. الإصلاحُ الإداري لم يعد مطلباً ولا خياراً بل أصبح أمراً لا حياد عنه للتغيير نحو الأفضل وفي هذا يقول الإمام محمد عبده:" الفساد يهبط من أعلى إلى أدنى، والإصلاح يصعد من أدنى إلى أعلى".

إنّه لم يعد بالأمر الخافي أنّ الوزارات والهيئات الحكوميّة تعاني من ازدواجيةٍ في الأنشطةِ، وضعف في التنسيقِ، وضبابية في الأهداف المراد تحقيقها، حتى أن عدداً لا يكاد يذكر من الوزارات هي التي تملكُ الرسالة المؤسسية، وإن امتلكتها فهي غير فاعلة أو غير مفعّلة على الصعيد الفكري والمهني والإستراتيجي..! ويكمن دور الإصلاح الإداري في هذا المحور في تقليص عدد هذه المؤسسات التي أسهمت في تضخّم الجهاز الإداري، لزيادة الفاعلية العملية، وسلاسة الترابط والتنسيق في علاقاتها البينية.

يذكر عبد الرحمن تيشوري في بحثه حول تجربة اليابان والصين في تحسين الأداء وإصلاح الإدارة[1] أنّ أهم ملامح الإصلاح الإداري في اليابان تتمثّل أولاً: في ملاءمة برامج الإصلاح للمتغيّرات في البيئة الداخلية والخارجية، ثانياً: شمولية وتكامل الإصلاح، ثالثاً: تحقيق المزيد من الكفاءة والتبسيط في الإجراءات الإدارية، رابعاً: تقديم خدمات ذات جودة عالية للجمهور، خامساً: خلق إدارة عامة تتسم بالبساطة وتستجيب لمتطلبات العصر، سادساً: الوصول إلى إدارة تسمح للأفراد بأن يتصرفوا بناءً على مبادراتهم الذاتية. أمّا عن تجربة الإصلاح الإداري الصين فأهم ركائزها أولاً:إصلاح النظام الإداري الحكومي بدءا من القمة باتجاه قاعدة الهرم الإداري حيث تمّ تحديد حصص للوظائف القيادية مع توصيفها من حيث المعارف والمهارات والسن، ثانياً: العمل على تخفيض العدد الإجمالي للوزارات والأجهزة الإدارية العليا والاستغناء عن حوالي 40% من إجمالي الموظفين العموميين، ثالثاً: تشكيل هياكل إدارية رشيدة تتمتع بالمرونة والكفاءة وتبتعد عن التعقيدات البيروقراطية وزيادة حيوية الجهاز الإداري العام وخلق علاقة متناغمة بين الجهاز الإداري والمشروعات والمؤسسات والتنظيمات الاجتماعيّة من جهة وإعادة تعريف العلاقة بين أجهزة الحكومة المركزية والمحليات من جهة ثانية، رابعاً: الفصل بين وظائف الأجهزة الحكومية ووظائف المشروعات الاقتصادية للوصول إلى بيئة داعمة خاصة، خامسا: إجراء تحوّلات واسعة في وظائف الحكومة بحيث تكتفي بالتخطيط التأشيري وعلى أن تترك لإدارات المشروعات العامة والأجهزة المحليّة مسؤولية التخطيط والتنفيذ والمتابعة شريطة أن تهتم الإدارات الحكومية المركزية بنتائج الأداء العامة وبمواضيع الرقابة عن بعد والمساءلة الإدارية وتنفيذ السياسات وتوفير الخدمات وغير ذلك.

إنّ أبرز ما نستلهمه من هذه الإصلاحات هو شموليّة الإصلاح بحيث لا يقتصرُ على جانبٍ دون آخر فمن شأن ذلك أن يعيقَ التنمية لأنّها كل لا يتجزأ، فكل عضو فيها إن أصابه العطل، أو الخلل تضرر بقية الجسد..! كذلك مرونة الجهاز الحكومي وملاءمته للمتغيرات الداخلية الخارجية فضلاً عن استجابته لمتطلبات العصر حيث إنّ الثبات على قوانينَ معينة، وتطبيق نظم لا تتواءم مع التعاملات العصرية، والاستمرار بعقليات لا تساعد على التغيير يعطّل حركة الإصلاح الإداري ويعيق أي حداثةٍ في عمل الحكومة، أضف إلى ذلك التخلص من التعقيدات البيروقراطية وتبسيط الإجراءات لتقديم خدمات ذات جودة عالية، وتخفيف الكادر الوظيفي الذي يسبب الترهّل في الجهاز الحكومي من أجل توجيه الطاقات البشرية إلى مساقات إنتاجية أفضل وعدم زيادة العبء على الحكومة. كما أن هذه الإصلاحات تتضمن أمراً مهماً وهو فصل المشاريع ذات الصبغة الاقتصادية والغاية الاستثمارية عن الوزارات الحكومية التي يقتصرُ دورها على الرقابة والمساءلة الإدارية وأعتقد أن هذا الأمر مهم للغاية في عملية الإصلاح الإداري مضيفاً على أهمية أن تقوم أجهزة أُخرى لها وظيفة الرقابة والضبط بالإشراف على ذلك كجهةٍ ثالثةٍ محايدة من أجل متابعة الصرف والإنفاق والأداء والنتائج باستقلالية وشفافية تامة.

إنّ الحكومة هي الأداة المكينة في تقدّم وتطور ونماء أي وطن، ولهذا فإنّ تمتّعها بالكفاءات الملائمة هو أمر لا جدال فيه. الكفاءات المخلصة والخليقة هي التي بمقدورها قيادة الوطن نحو الإزدهار والنماء، لأن رأس المال البشري الكفوء هو أعظم ما تزخرُ به الأوطان، فإن هي مكّنتهُ من إدارةِ مواردها الأُخرى أبدع، وإن هي أقصتهُ وهمّشته تعطلت سياستها التنموية فضلاً عن كل سياسةٍ أُخرى..!. لهذا لا بديل من انتقاء الكفاءات البشرية التي تمتلك رؤية كيّسة للمستقبل، وفكراً لامعاً يتخذ من التغيير منهجاً، ومن التناغم مع مستجدات العصر صفةً وجوهرا.

الكفاءة وحدها هي الأداةُ الفصلُ أكانت في التوظيف الذي يتم وفق أداةٍ يتيمة هي الإختبار الانتقائي الذي لا يكشفُ عن بعد الشخصية ولا كفاءتها، أو الترقيات التي تتم وفق الدفعات وهي سياسة يجب أن تراجع من أجل تحسين الأداء، ورفع الإنتاجية، فضلاً عن أهمية مراجعة سياسة الترقيات للمناصب الوظيفية التي لا تعتمد في أغلبيتها على الكفاءة.

وإذا كنّا نعوّل على القطاع الخاص في أن يكون شريكا فاعلا، ومساهما حقيقيا للتنمية الوطنية فإن إصلاح الجهاز الإداري هو المنطلق لأنّ القطاع الخاص لا يمكنه أن يعمل في أجواء من التعقيدات الإدارية، والتصعيبات القانونية..! لقد أصبحت الكثير من الدول ترتهن على إنتاجية القطاع الخاص ولهذا قدّمت له التسهيلات من أجل النموِّ، ووفرت له المناخات المناسبة للتطور، وأزاحت عنه القيود المفروضة عليه لينمو وينافس.

إنّ تشكيل فريقٍ - لا أقول لجنة فقد أصبحت هذه اللفظة تثير التعليقات- مكوَّن من التكنوقراط المتخصصين في شؤون مختلفة والمطلعين على التجارب الدولية في الإصلاح، يمزج بين الكوادر الوطنية والأجنبية ذات الخبرة بإمكانه في اعتقادي وضع التوصيات الدقيقة للإصلاح، على أنّ الأهمية الكبرى تأتي في صانع القرار لتطبيق هذه التوصيات الإصلاحيّة على أرض الواقع..!

الإصلاحُ الإداري يعتمدُ أولاً وأخيراً على الإرادة الفاعلة للتغيير، حينها لا يقف عائقٌ أمام الإصلاح. أمّا حين نقصدُ الإصلاح الشامل والجذري فإننا بلا شك نقصدُ أن يبدأ بالتعليم فهو الركن الركين لأيّة نهضة، والحصن الحصين لأيّة تنمية.

 

[1]

تعليق عبر الفيس بوك