إلى أين تتجه المنطقة؟

زاهر المحروقي

مُنذ انتصار الثورة الإيرانية لم تكن العلاقات بين السعودية وإيران جيدة، وقد مرت بين شد وجذب، إلا أن هذه العلاقات شهدت تدهوراً كبيراً في السنوات الأخيرة، خاصة بعد التصريحاتِ الإيرانية التي حمَّلت الحكومة السعودية مسؤولية وفاة حجاج إيرانيين أثناء رمي الجمرات، وكذلك لعبت الأزمتان السورية واليمنية دوراً أساسيا في تأجيج النار بين الدولتين، مع امتعاض السعودية من الاتفاق النووي الإيراني الغربي، مما حوَّل الصراع من التراشق الإعلامي إلى الحروب بالوكالة، حتى جاء إعدام الشيخ نمر النمر، الذي جاء كالقشة التي حولت النزاع إلى شبه حرب، والصراع بين السعودية وإيران هو صراعٌ على النفوذ والسيطرة؛ إذ كل طرف يريد أن ينفرد بزعامة المنطقة، وهو صراع عقائدي في جزء منه، يستلهم جذوره من الماضي ومنه ينطلق إلى الحاضر.

هناك عوامل ساعدت على تأجيج الصراع بين الطرفين، من ذلك مثلاً أن إيران حققت نجاحاً دوليا بالاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه مع أمريكا والقوى الكبرى، فاعتبرت السعودية أن الاتفاق قد حرر إيران وفتح الفرصة أمامها لبناء وتعزيز شبكتها من الروابط في جميع أنحاء المنطقة من لبنان وسوريا إلى اليمن والمجتمعات الشيعية في دول الخليج وغيرها، وجاء هذا الاتفاق في وقت صمد فيه النظام السوري صموداً أفرح أنصاره وأغاظ أعداءه، وذلك بعد التدخل الروسي المباشر والمساندة الإيرانية الواضحة، فكان التدخل السعودي في اليمن، وهو التدخل الذي لم يحقق أي انتصار حتى الآن، بل زاد من تفاقم الأزمة في المنطقة، التي تصادفت مع انخفاض أسعار النفط، مما أرهق الموازنة السعودية تماماً.

والسؤال الآن: إلى أين تتجه المنطقة؟ وهل تتطور المواجهة الكلامية بين البلدين؟ لقد كانت المواجهة بين السعودية وإيران غير مباشرة وإن كانت هناك أطراف أخرى دفعت ثمن ذلك عبر حروب بالوكالة ومواجهات مسلحة في شوارع أكثر من دولة بالمنطقة؛ فهناك الصراعات في سوريا والعراق واليمن والبحرين ولبنان، وقد طرحت قناة CNN سؤالاً هو: إلى أي حد قد تسوء الأمور بين أقوى بلدين في الخليج؟ فكان رد الكثيرين أن فرصة انفجار مواجهة مسلحة بين البلدين قائمة؛ لأن الوضع يتطور بسرعة، فيما رأى البروفسور محسن ميلاني الاستاذ بجامعة جنوب فلوريدا، أن ما بين السعودية وإيران خصومة طبيعية نظراً للتنافس بينهما على مركز الصدارة بأسواق النفط العالمية، وكذلك على قيادة المجتمعات الإسلامية، وهو يرى أن كل دولة تحاول إضفاء صفة الضحية على نفسها مع تصاعد التوتر بينهما، ويعتقد أن المنطقة مقبلة على حروب أخرى بالوكالة أكبر وأعنف؛ وهو ما اتفق عليه أيضاً مسؤولون إسرائيليون في نقاش مغلق -حسبما كتبت سمدار بيري في صحيفة يديعوت أحرونوت عدد 8/1/2016-، من أن الطرفين لن يخرجا إلى حرب شاملة، بل ستزداد وتيرة المعارك بالوكالة في أكثر من مكان.

لقد أرجع أيان بريمير رئيس مجموعة "يورو آسيا" الاستشارية، الأزمة بين البلدين إلى دوافع داخلية بكل بلد؛ فالسعودية -حسب تحليله- تحت ضغوطات اقتصادية بسبب تراجع أسعار النفط ومستقبلِ الخلافة على العرش، بينما إيران من جانبها تحاول الحد من المكاسب التي نالها التيار الإصلاحي والغرب بسبب الاتفاق حول الملف النووي؛ مما يشرح سعي كل طرف لتسجيل النقاط داخليًّا.

أجمع المحللون على أن نتائج التصعيد ستظهر على الساحة في دول الشرق الأوسط، وخاصة في الملف السوري حيث ستتبدد فرصة التوصل إلى حل سياسي قريبًا، وكذلك في الملف اليمني؛ إذ اعتبر بوبي جوش وهو أحد محللي قناة CNN، أن السعودية ترغب من خلال تصرفاتها القول بأنها "خلعت القفازات" في حلبة المواجهة.

لقد كتب الكثيرون عن إعدام الشيخ نمر النمر، وهو الإعدام الذي تسبب في الأزمة الأخيرة، وانطلق بعض الكتاب في إطلاق أحكامهم من خلفيتهم المذهبية، وقد تكون تغريدات نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق، والشيخ عبدالرحمن السديس إمام الحرم المكي، تعطي الصورة واضحة عن الانقسام الحاصل بين السنة والشيعة، وتعطي الصورة عن مدى تأثير المذاهب على أبناء الأمة، حيث كتب المالكي: إن قيام السعودية بإعدام النمر، سيؤدي إلى "الإطاحة بالنظام السعودي"، واعتبر الإعدام "جريمة نكراء وتكريساً للنهج الطائفي وامتداداً للسياسات التعسفية والقمعية التي كان ينتهجها نظام البعث في ملاحقة دعاة الحرية والفكر، وأن جريمة النمر الوحيدة، كانت المطالبة بالحقوق المسلوبة"؛ فيما قال الشيخ عبدالرحمن السديس: "سعد أهل الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وتهللت أسارير المسلمين لِمَا رأوا من قوة الحق الذي أزهق الباطل، وجاء على أعماق جذوره وأزاله، حيث أقام ولي أمرنا حدود الله، في أناس أقدموا على استباحة الدماء المعصومة، وانتهاك الحرمات المعلومة، واستهدفوا زعزعة الأمن وزرع الفتن والقلاقل، فحصد باطلهم بسيف الحق البتار، وعصم الله به العباد من شر هؤلاء الأشرار".

ولكننا إذا نظرنا إلى وجهة نظر أخرى، فإننا نرى رأياً محايداً ومختلفاً تماماً عن آراء الطرفين، حيث قال كريستوفر ديكي الصحفي في "ذا ديلي بيست" في مقابلة مع (CNN) يوم الأحد 3/1/2016: "نحن لا ننظر فقط إلى خصمين مختلفين طائفياً، وإنما ننظر أيضاً إلى حكومتين مختلفتين دينيًّا؛ فإيران جمهورية دينية والسعودية مملكة دينية.. وكلاهما يقولان إن الرب بجانبهما، هل هذا شيء تريد أمريكا أن تكون في خضمه؟ ونضيف إلى ذلك مشكلة ما يسمى بالدولة الإسلامية التي تقول "كلا.. إن الرب بجانبنا نحن"، وجميعهم يعدمون الناس ويقطعون رؤوسهم.. وفي النهاية كل هذا فوضى دينية دموية في الشرق الأوسط، والأمر سيزداد سوءاً مع استمرار هذه الطوائف بالقتال فيما بينها".

من مصلحة المنطقة أن يحتكم النظامان السعودي والإيراني إلى العقل، فلا توجد أي مصلحة في الحروب بين الطرفين، ففي ذلك إضعاف لقوة المسلمين من خلال إثارة النعرات الطائفية، وفي ذلك تحقيق للمصلحة الإسرائيلية في المنطقة، ويكفي أن شعوباً بريئة دفعت ثمن الخلاف بين الدولتين في أكثر من مكان، خاصة في اليمن وسوريا، ولن تبقى دول الخليج بعيدة عن القلاقل، فمع ظهور العجز المالي وعند انهيار المنظومة الاقتصادية فإن انهيار المنظومة الأمنية سيتبعها فوراً، إذ عندها سيظهر إلى العلن كل ما كان تحت الرماد، وهو كثير جدًّا.

نحن نحتاج الآن إلى أن تنظر دول المنطقة إلى مطالبات أبنائها من منظور "المواطنة" فقط، بعيداً عن الانتماءات المذهبية، سواء كان ذلك في إيران أو السعودية أو أي دولة؛ فعندما تتحقق العدالة عند الجميع ويتم التعامل مع المواطنين بالمساواة بغض عن انتماءاتهم المذهبية أو العرقية، فإن ذلك كفيل بأن يُبعد التوترات الداخلية، والتي هي مرشحة للظهور في أكثر من مكان وبأكثر من شكل، وعندما يتم محاسبة المخطئ، يجب محاسبته على خطئه وليس على انتمائه المذهبي، وكثيرٌ من الأخطاء ارتكتبها بعض الأنظمة الخليجية، جعلت من البعض يبحث عن الأمان خارج وطنه، وهي -أي الأنظمة- زرعت الطائفية ونزعت الولاء من حيث لا تدري، وفي رأيي فإن الشيخ نمر النمر أخطأ عندما دعا إلى الانفصال، فهذا مرفوض ولا توجد دولة تقبل به، ولم يخطئ عندما كان له مطالب ومظالم مشروعة، لكن الحكومة السعودية وقعت أيضاً في خطأ إستراتيجي في إعدامه، وهو خطأ ليس أقل من خطأ الدخول في حرب اليمن، والحكومة الإيرانية وقعت في خطأ عندما لم تحمِ السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد.

وهناك نقطة مهمة، وهي أنه مهما يكن من أمر، فإن ولاء المواطنين يجب أن يكون لأوطانهم في المقام الأول، ولا يجب أن يكون لمن ينتمون إليهم مذهبيًّا أو عرقيًّا، وعندما تحقق الحكومات العدالة والمساواة بين أبنائها، فذلك كفيل بتحقيق الاستقرار؛ فالتحدياتُ كثيرةٌ الآن، والسؤال الذي يؤرق الكثيرين هو: إلى أين تتجه المنطقة بعد التوترات في العلاقات بين السعودية وإيران؟

تعليق عبر الفيس بوك