اختلاس أم تجاوزات مالية؟

هلال الزَّيدي *

في صبيحة شتاء ذلك اليوم، وبينما أشعة الشمس تجدل خيوطها فتتسلل خلسة إلى هذا التكوين لتنير دروب كانت موحشة، وتفضح من كان يختلس اللحظات ليتستَّر بظلام الليل ليخفي فعله عن عيون البشر المتوارية في سبات عميق، متجاهلا من "لا تأتيه سِنَة ولا نوم"، ومتناسيا العقاب الأبدي على اختلاسه وخلسته وتسللاته المنافية لكل الأعراف الكونية والوضعية.. هنا تتشكل اللوحة في ذهني لأصل إلى قناعة استلهمتها مع تلك الأشعة الدافئة: بأن الفساد وإن استشرى وهاج المختلسون وماجوا في هذه الأرض، إلا أنه سيأتي يوم وتنكشف الأقنعة ليظهر الحق كتلك الأشعة التي أنهت سواد الليل، ومنها تنتهي حقبة كان يعتقد أصحابها بأنها لا تنتهي أو ربما لا تنكشف عن مصراعيها.

مع تلك الهواجس وتراقص الشخوص أمام العقل الباطني، تبرُز كلمة الاختلاس إلى الساحة مُهشِّمة الزجاج الأمامي للسيارة التي تطوي مسافات الصباح فتحدث شقوقا كثيرة.. لتقل الرؤية أو ربما تنعدم من جراء تلك "الخلسة" لتتهاوى فيما بعد ثقتي في السيارة كونها حنثت بوعدها بعد أن منحتها ثقتي لأقودها وتقودني إلى حيث نريد لأننا متشاركون في كل شيء، ومكملين بعضنا البعض، فأنا وجهت مقودها لأوصلها إلى سدة الموضع، لتحملني هي فيما بعد بناء على الثقة التي أعطيتها إياها وتمثلني في كل الطرق والمسارات والتقاطعات، وحتى الإشارات الضوئية؛ فهي لا تُعرف بأنها سيارة لماركة معينة، وإنما هي سيارة لـ"فلان"، فنوعها وأصلها واسمها يختفي بعد أن رضيت أن تظهر عني وباسمي.. هنا تتشابه الكثير من العلاقات الإنسانية والتجمعات المدنية التي من شأنها أن تحدث تكاملا إنسانيا نبيلا إذا احترمت العقول بعضها البعض وقُدّرت الشخوص بإنسانيتها وليس بهمجيتها المادية والتملكية؛ لذا فالشأن خطير لأن الخلسة تدفع إلى الاختلاس، واستخدام الثقة في غير محلها.

ولأنَّ الرؤية المعتمدة على الزجاج الأمامي شبه منعدمة من جراء تلك الخلسة؛ لذلك تحتم عليَّ إبطاء السرعة حتى لا يقع ما لا يُحمد عقباه محاولا أن أخرج بنفسي وأنأى عن تلك المصطلحات، لذا قرَّرت أن أُدير صوت المذياع.. ليعلو موشح زمان الوصل للسان الدين ابن الخطيب قاطعا صمت المكان:

((جادك الغيث إِذا الغيث همى...

يا زمان الوصل بالأَندلسِ

لم يكن وصْلُك إِلاّ حُلُمًا...

في الكرى أَو خُلسة المختَلِسِ))

وعند بلوغ "فيروز" إلى الكلمة الأخير من هذا المقطع، تذهب قدمي بلا شعور إلى مكابح السيارة وبقوة تنهال عليها بضربة واحدة ليصطدم رأسي بالمقود وتتوقف السيارة على كتف الطريق؛ فتدور لديّ المصطلحات مع شخوصها فتستقر عند "الخلسة" مجددا على الرغم من تقاطع المعاني التي يرمي إليها "ابن الخطيب في موشحته التي توشح بها صوت "فيروز".. إذاً مرة أخرى هناك اختلاس يظهر في الخفاء، كظهور الخفاش ليلا وينهب لسد رمق جوعه.. لكن الاختلاس هنا لسد حاجة وليس للتملك دون وجه حق، فمن اختلس شيئا لسد حاجة كالجوع مثلا، فإن العقوبة تقل أو تنعدم بحسب المجتمعات، أما من اختلس زورا وبهتانا واستولى على مال ليس من حقه فهو مختلس مع سبق الإصرار والترصد، ويكبر عندما يستغفل "المختلس" الآخرون ممن منحوه الثقة ليختلس باسمهم ويعتبره من حقه لأنه بذل فيه جهدا، لكنه هنا لا يعلمهم به فيتستر عليه حتى تكشف الجهات ذلك، فيكون لكل حادثة حديث.

تلك الممارسات تتعدَّد تسمياتها في عالم مختلف؛ فمن أجل التخفيف في بعض المصطلحات يمكن أن يُطلق على الاختلاسات تجاوزات "إدارية ومالية" لانعدام القوانين واللوائح المنظمة لجهة أو مؤسسة مجتمعية معينة، لذا فهي تُشكل مبرراً لبعض الأفراد في أخذ بعض منها كلوازم أتعابهم، بطريقة غير معلنة "اختلاسية"، وبتتبعي لمعنى الكلمة -حسب ما ورد في موقع ويكيبيديا- فإنَّ الاختلاس هو: "فعل من أفعال الاستيلاء غير الشريف أو نوع من الاحتيال المالي، وفي أكثر الأحيان يتم تنفيذ الاختلاس بطريقة غير متعمدة ومنهجية، مع نية واضحة لإخفاء الأنشطة من الأفراد الآخرين؛ لأنه عادة ما يتم ذلك دون علمهم أو موافقتهم، وغالبا ما ينطوي على شخص موثوق به باختلاس نسبة صغيرة أو جزء من الأموال التي وردت، في محاولة للتقليل من خطر الكشف؛ فإذا نجحت يُمكن أن تستمر لسنوات أو حتى عقود من دون الكشف عنها، وغالبا ما يكون فقط عندما تكون هناك حاجة إلى الأموال".

لكن التشابه في الدلائل والتعريفات جعلني أُفرِّق بين الاختلاس والسرقة؛ فالبون كبير حتى في تطبيق العقوبة، ولا يمكن أن نشبِّه أحدهم بالآخر، وأنا هنا لا أدَّعي المعرفة وإنما بالاجتهاد عبر الاطلاع سأحاول تقديم تفسيرات لهول المواقف التي تتراقص أمامي، وأنا ما زلت قابعا على الرصيف لأتتبع معاني وتفاسير فعل الاختلاس، والخلسة؛ لذلك ولضرورة الوقوف على المعنى، ذهبت أتصفح الشبكة العنكبوتية، حتى وصلت إلى موقع "فقه السنة" الذي أورد قولا لابن عرفة وقال ابن عرفة: "السارق عند العرب، هو من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له"، ويفهم مما ذكره صاحب القاموس وابن عرفة، أنَّ السرقة تنتظم في أمور ثلاثة؛ هي: أخذ مال الغير، وأن يكون هذا الأخذ على جهة الاختفاء والاستتار، وأن يكون المال محرزا، فلو لم يكن المال مملوكا للغير، أو كان الأخذ مجاهرة، أو كان المال غير مُحرز، فإن السرقة الموجبة لحد القطع لا تتحقق، والمختلس والمنتهب والخائن غير السارق؛ لهذا لا يُعتبر الخائن ولا المنتهب، ولا المختلس، سارقا، ولا يجب على واحد منهم القطع، وإن وجب التعزير، فعن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع" رواه أصحاب السنن، والحاكم، والبيهقي، وصححه الترمذي، وابن حبان، وعن محمد بن شهاب الزهري، قال: "إن مروان بن الحكم أُتى بإنسان قد اختلس متاعاً، فأراد قطع يده، فأرسل إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك؟ فقال زيد: ليس في الخلسة قطع". رواه مالك في "الموطأ". كما قال ابن القيم: "وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم، وترك قطع المختلس، والمنتهب، والغاصب، فمن تمام حكمة الشارع أيضاً؛ فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب الدور، ويهتك الحرز، ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطعه، لسرق الناس بعضهم بعضاً، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسراق، بخلاف المنتهب والمختلس؛ فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويخلصوا حق المظلوم، أو يشهدوا له عند الحاكم وأما المختلس، فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره، فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ، لا يمكنه الاختلاس، فليس كالسارق، بل هو بالخائن أشبه، وأيضاً فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالباً، فإنه الذي يغافلك، ويختلس متاعك في حال تخليك وغفلتك عن حفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالباً، فهو كالمنتهب، وأما الغاصب فالأمر منه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب، ولكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال، والسجن الطويل، والعقوبة بأخذ المال". انتهى.

بينما أقرأ تلك المقولات، يقطع ذلك الاتصال علي انسجامي، حيث كان أحد يتصل بي، فأرد عليه: أهلا وسهلا عزيزي (...)، ما الأخبار؟ فيجيب: الأخبار لا تسر، أما سمعت عن أولئك الذين اختلسوا الثقة وخانوا الأمانة ولديهم قضية في أروقة المحكمة.....؟ هنا ينقطع الاتصال فلم أتبيَّن مِنَ المتصل الموضوع برمته، إلا أنه وضعني في دائرة الاختلاس خلسة، فأردت معاودة الاتصال به لكنه ذهب خلسة في فضاء الاتصالات؛ فهناك من أجاب: "عفوا، تعذَّر الحصول على المشترك المطلوب، الرجاء الاتصال فيما بعد". فقرَّرتُ غلق هاتفي وإسكات المذياع ومواصلة سيري لأنفصل عن العالم في خلسة ذاتية.

----------------------------

همسة:

سيدي المتصل: إن كنت تنوي الاتصال بي مرة أخرى لتخبرني عن الاختلاس أو المخالفة المالية والإدارية المرتكبة، فأرجو أن لا تتصل بي لأنني لا أريد أخسر أشخاصًا أعدهم طيبين ولهم نوايا حسنة، حتى وإن كان الخبر صحيحاً، دعهم للقانون فسوف يأخذ مجراه، وعليك "أنت" أن تتحاشى الدخول في زمرتهم، وتحاول أن تحجب ثقتك بهم، مع إجماع العامة على ذلك.

* كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك