مشروع التيّار المدني البحريني: منطلقات البرنامج السياسي

عبيدلي العبيدلي

من الطبيعي أن يكون للتيار المدني برنامجه السياسي الذي يحدد معالم وتخوم حركته السياسية على المستويين: الداخلي التنظيمي، والخارجي الجماهيري. ومن الطبيعي أيضا - كي ينجح التيّار في تحقيق أهدافه- أن يكون هذا البرنامج منطلقا من قراءة صحيحة للواقع السياسي الذي يمارس فيه هذا التيار أنشطته، تقوم على فهم التاريخ والاستفادة من دروسه، واستيعاب الحاضر وتشخيص عناصره، واستقراء المستقبل والتهيؤ له. وفي خضم هذه العملية من الضرورة بمكان إدراك، بموضوعية وبعيدًا عن أي انفعال غير مبرر- الثوابت والمتغيّرات في المحيط الذي يسبح فيه التيار، مع ضرورة التنبيه ألا شيء سرمدي خالد في تاريخ المجتمعات، ومن ثم فالإشارة إلى الثوابت والمتغيّرات، يقصد منها فهم حضورها خلال حقبة تاريخية معينة، فرضتها ظروف ذاتية وموضوعية محددة.

وهناك مجموعة من الثوابت التي ينبغي للتيار المدني أن يأخذها في الحسبان عند وضع منطلقات، أو على نحو أكثر تحديد، عند صياغته، لبرنامجه السياسي، يمكن أن نسرد الأهم بينها في النقاط التالية:

1. الميثاق الوطني هو الإطار الذي ينبغي التحرّك في نطاقه من أجل ممارسة العمل السياسي، فهذا الإطار يستمد شرعيته من النسبة الشعبية العالية التي نالها، من جانب، والنقلة النوعية التي حققها على طريق التحول السلمي الديمقراطي من جانب آخر، دون أن يقودنا ذلك إلى إضفاء "القدسية" على هذا الإطار إلى الدرجة التي يفقد جراءها حيويته التي يتمتع بها، ومرونته التي لا يستغني عنها. وبطبيعة الحال كي يتمكن ميثاق العمل الوطني من أداء رسالته التي ينادي بها، لا بد له أن يستفيد من تلك الديناميكيّة التي تمده بالقدرة على التطور كي يكون ينجح في التلاؤم مع المستجدات التي تفرضها التطورات الطبيعية التي لا تستغني عنها المجتمعات المعاصرة، التي يحق للمجتمع البحريني أن ينتسب لعضويتها.

2. العنف لا يمكن أن يكون الوسيلة الملائمة التي يمكن من خلالها انتزاع التحولات المدنية التي يناضل من أجلها ذلك التيار. والطلاق مع العنف لا يقف عند التبرؤ اللفظي منه فحسب، ولا التنصل الإعلامي منه فقط، وإنما يعني بالإضافة إلى كل ذلك تحوله إلى ركيزة أساسية منهجية عند ممارسة العمل السياسي، على أن يترافق ذلك قطع حبل السرة مع أي من القوى السياسية التي لا تأخذ بالطرق السلمية المدنية وسيلة للتغيير، وقناة من قنوات التواصل مع مكونات العمل السياسي في البحرين.

3. التغيير من داخل المؤسسات الرسمية، وعلى وجه الخصوص التشريعية منها، بغض النظر عن تلك النواقص التي تعاني منها، أو بعض المآخذ على سلوك أعضائها. وهنا سيجد التيار المدني نفسه، موضوعيا، منخرطا كلية في العملية السياسية، ويحقق أفضل المكاسب من خلال التعامل الإيجابي البناء مع تلك المؤسسات، دون أن يعني خفض سقف الصلاحيات التي ينبغي أن تكون بحوزتها.

4. فشل عمل أي شكل من أشكال المعارضة القائم على أرضية سياسية طائفية، مهما كان علو النسبة التي تتشكل منها تلك الطائفة. ففي نهاية الأمر تشكل الطائفية ذلك المنشار الحاد الذي يتآكل من حركته ذهابا وإيابا المجتمع الذي يطمح للتغيير نحو الأفضل. ففي التشكل السياسي الطائفي تنمو وتترعرع جرثومة تشظي ذلك المجتمع، واهتراء قواه السياسية، وتهالك عضلاته العاملة من أجل التغيير.

ولا بد من التأكيد هنا على مجموعة من المسائل والسلوكيات التي ستكون نتيجة طبيعية ومنطقية، عند القبول بتلك الثوابت والتحرك من خلال القوانين التي تفرضها. وأول تلك المسائل وأكثرها حضورا هي أن طريقها طويلة ووعرة، وتكتنفها العديد من المنعطفات الحادة التي سيأخذ بروزها الطابع المفاجئ والكثير التكرار. وعلى نحو مواز ستكون المكاسب التي ينتزعها من يسلك تلك الطريق ضئيلة وتحتاج إلى نفس طويل قبل أن يتم نيلها على النحو المطلوب.

على نحو مواز لتلك الثوابت هناك العديد من العوامل الأخرى المتغيرة التي يمكن رصد الأهم بينها في النقاط التالية:

1. هزيمة القوى السياسية التي قادت الحراك السياسي على امتداد السنوات الخمس الماضية. والاعتراف بالهزيمة لا يعني إطلاقا القبول بها واقعا خالدا، ومن ثم والعمل على أساس المعاناة السرمدية من ذيولها، كي لا تتحول إلى ظاهرة غير قابلة للنسف. بل من الجريمة أن تتحول إلى ما يشبه وصمة العار التي تتحاشى تلك القوى السياسية حتى مجرد الإشارة لها. فالقوى السياسية التي تمتلك الحيوية المطلوبة هي وحدها القادرة على الانتقال السلمي التدريجي من خنادق الهزيمة إلى أخرى غيرها تتمكن من خلالها انتزاع المزيد من المكاسب لصالح البرنامج السياسي الذي تناضل من أجل تحقيق أهدافه. والحديث هنا ليس عن حركة طائر الفينيق العدمية المتكررة، والعاجزة عن تحقيق أي هدف من أهدافها سوى الاستمرار في الحركة بعد استعادة الحياة.

2. حالة الاحتقان الطائفي أو السياسي التي تسود، ولكنها لن تدوم لفترة طويلة بالمقياس التاريخي لحركة الشعوب الطامحة للتغيير، سلوك مكونات العمل السياسي البحريني اليوم، ومن ثمّ فمن الخطأ الخنوع لإفرازاتها، أو القبول بتداعياتها، ليس السياسية فحسب، وإنّما المجتمعية والمؤسساتية أيضًا.

3. الواقع غير المسر الذي تعاني منه منظمات المجتمع المدني إثر الإمعان في تسييسها حتى كادت أن تفقد درجة عالية من القدرة على أداء الدور المنوط بها القيام به، والتي باتت الحاجة ملحة كي يعاد تثبيت هرم هذه المنظمات الذي أصبح شبه مقلوب على قاعدته الصحيحة، كي تكون هذه الأخيرة قادرة على ممارسة دورها المجتمعي بكفاءة عالية، وبعيدًا عن أي تسييس غير مجد.

4. التطلّع غير المنطقي لتفاعلات الخارج والاعتماد شبه المطلق عليها، في إحداث التغيير المطلوب في المشهد السياسي البحريني الداخلي. ليس القصد هنا التقليل من الثقل الذي تمثله تلك العوامل الخارجيّة، والتغيّرات الإقليميّة المحيطة بالمجتمع البحريني الصغير في مكوّناته الجغرافيّة والسياسية والسكانيّة والاقتصادية على حد سواء، وإنّما عدم القبول بمنطق أن التغيير في المشهد السياسي مطلق في خارجيّته، إذ تبقى العوامل الداخلية هي الأكثر حضورًا والأشد تأثيرًا. وهنا يأتي دور التيار المدني في بناء المعادلة الصحية القادرة على الموازنة بين التفاعل المطلوب بين تأثيرات الخارج، وعناصر الداخل.

في ضوء كل ذلك يقف التيار المدني اليوم أمام تحد في غاية الصعوبة والتعقيد مصدره متطلبات العمل في إطار تلك الثوابت، دون إهمال دور تلك المتغيرات، وتسخيرها كمنطلقات لوضع برنامجه السياسي المنتظر.

تعليق عبر الفيس بوك