"و لو ألقى معاذيره"

سلمى اللواتيَّة

قال تعالى: "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره" (القيامة: 14-15)، إنها إشارةٌ لجهاز متكامل من نقد الذات يقع داخل أعمق نقطة من الذات الإنسانية؛ حيث محل كرامة الإنسان التي ترفعه عن الحيوانية الطاغية التي إن سلَّمها الزمام مُسخ هذا الجهاز فصار "إن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا" (الأنعام:44)، إنه جهاز "الضمير" الذي من المفترض أنه يحكم بالعدل الموثّق المستند إلى الدلائل والبراهين حين يعتنق المرء منّا قضية أو رأيا، وهو الجهاز الذي يستيقظ رغما عن المرء فيحرمه الراحة لو مدّ بالظلم يدا ولا يفسده سوى ذلك اللؤم المشبوب بحب الدنيا حين يطلّ ليخرس جهاز الإنذار، حينها يظنّ الإنسان أنه حقق نجاحا كبيرا وأنّ يد القدر البيضاء امتدت لتشفع له أمام الملأ الذين سيصفقون ما داموا أحياء غافلا أنه لوهبط الموت ارتخت الأيادي وذهبت السكرة في موعد ليوم الحساب.

هذا الفهم الأولي للنقد والذي يصنفه علماء الأخلاق في باب محاسبة النفس وهو يمثل أول وأهمّ خطوط المناعة التي تحدد مصير الإنسان النهائي حين تنتهي مدة حياته على سطح هذه الأرض، وهو الأمر الذي يُكسب موضوع نقد الذات أهمية كبرى لا تصل لحقيقتها إلا العقول الكبيرة! إذْ لا يضع نفسه على ميزان النقد العادل متجرِّدا من كل تجاذبات النفس وصراعاتها الداخلية لإثبات الأنا إلا العقلاء، ذلك أنه -أي النقد- عملية تدل على وعيٍ عميق بالأنا منصف لها في جميع مستوياتها كما يدل على إرادة واعية واثقة من نفسها لا تفسد رأيَها الأخطاء التي قد تقع فيها، ولا تشوش ذهنها بعض المنعطفات القاسية لأنها تحمل قرارالارتقاء بالذات وتطويرها، وتفرّق تماما بين الخطوط التي تفصل بين نقد الذات وجلدها بالطريقة التي قد تنزلق بها نحو الانهزام الداخلي النفسي، ربما يرى البعض نقد الذات مجلبة لبعض الآثار النفسية السلبية، غير أنّي شخصيا أرى على العكس تماما فأيّ عملية نقدٍ للذات بوعي هي درع يقي من الوقوع في مغبة الانهزام النفسي بشرط أن يبتعد النقد عن حفرة الانطباع البدائي ويأخذ بالمنهجية العلمية في فرز الإيجابيات والسلبيات في موقف معيّن. وعلى الرغم من سموّ هذه العملية ودلالتها على تحضُّرمن يُلزم نفسه بها ومع كل ما قد يوفر لها المرء من حياديةٍ وإنصاف إلا أنّ كثيرا من التشويش قد يعترضها حين يكون الناقد هو المتهم -لو جاز التعبير- وهو القاضي والحَكَم، إذ لا ريب أنّ الآخرين يرون منا ما لا نراه ويتفاعلون مع سلوكنا في المواقف المختلفة بغير ما نتفاعل نحن ويعلمون من ردود أفعال الآخرين ما قد يخفى علينا للعديد من الأسباب لذا فإن روعة جهاز النقد الإلهي تكتمل بصورة المرآة في قوله (ص): "المسلم مرآة أخيه المسلم" هي أدوات ووسائل متنوعة تهدف إلى الوصول إلى أقصى درجات قوة الذات والعزيمة والرغبة في الارتقاء على سلم الكمال البشري للإنسان ومهما استشكلنا على انحيازية الرأي الآخر في الحكم علينا، إلا أنها بلا شك تضعنا على بعض الحقائق التي يمكننا استثمارها بما يخدم غاياتنا الأسمى ولكي نصل إلى الاستثمار الأمثل لما يوجّه إلينا من انتقاد نحن بحاجة إلى أن نتعامل مع عملية النقد كقيمة معرفية تكشف لنا آفاقا جديدة للتعامل مع ذواتنا وهي قناعة يفترض بها أن تكون مبدأً مهمّاً نتعامل به لا على مستوى الذوات فحسب، بل حتى على مستوى مجتمعاتنا حين يوجّه لها النقد، لست أدري كم سيكون هذا الاعتراف جارحا أو خطيرا أوكما أظنه أشهر من علم في رأسه نار! اعترافٌ بأننا كمجتمعات عربية ما زلنا نتعامل مع النقد على سنّة الأخطل وجرير والفرزدق فلا تتجه عقولنا إلا نحو مبادلة النقد بالهجاء كي نخرج من كل التجربة بخُفي حنين ويسرح الجمل بما حمل ويمر الحدث دون فائدة ترتجى! الحقيقة أننا اليوم وفي هذا الظرف التاريخي الحسّاس الذي تمربه منطقتنا العربية والإسلامية بحاجة إلى أن ننشّط عملية النقد الذاتي لواقعنا العربي والإسلامي، وأن ندفع بالباحثين إلى دراسة الظرف السياسي والاقتصادي الدقيق وردود الأفعال المختلفة التي تصدر من دولنا وأفرادنا تجاه الأحداث المختلفة والآثار التي تتركها سلبا أو إيجابا على هذا الواقع ويبدو لي من الأهمية بمكان أن نهيئ لهم ظروف الانفصال عن الواقع مكانيا وزمانيا لفترة كافية تمكنهم من النظرة الأشمل التي تخرج لنا بنتائج أكثر واقعية حول قضايا التطرف والشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي وقضايا التعليم والمرأة وثقافة العمل، وأساليب الإدارة والانتاج وغيرها الكثير من المواضيع المهمة التي تنخر في أسس بنياننا الذي أخشى أنه على جرف هار!! إنه الوقت الأنسب لننشئ لنا مراكز بحوث ودراسات معتبرة عالميا تعطينا نتائج حقيقية نعتمد عليها في قراراتنا وشؤوننا، فحتى لو لم تخرج لنا هذه الدراسات بحلول على المدى القريب؛ فإنها بلاشك ستمثل جزءا من حلول المستقبل، أوسنكون على الأقل قد تركنا لأجيالنا القادمة ما يتقون به شرّ ما وقعنا فيه. إنّ الواقع المرير الذي تعيشه أمّتنا مع كل ما يحمله من إحباطات وما قد يجلبه من يأس للعوام كما للنخب يحتم علينا وبجانب عملية النقد الذاتي أن نطّلع على ما يقوله الآخرون عنا بدقة بالغة مما يتطلب تخصيص باحثين في هذا الجانب كذلك؛ ثم لنضع كل ذلك على طاولة الحياد مفكِّرين ومسخرين العقول الواعية لدينا وصولا إلى ما يزيح كوابيس الإنهزام الداخلي وأزمة الهوية التي تعيشها أجيالنا تجاه كل موروثها الثقافي والحضاري الذي صارت تنظر إليه ميراثا ثقيلا من العبث واللافائدة! إنّ اسثمار هذه اللحظة التاريخية اليوم من قِبل عقلاء هذه الأمة ونُخَبِها هو ما سيخلّف وراءنا جيلا يقبل بالنقد كقيمة معرفية يستنير بها ويرتكز عليها ويستخلص منها العِبر، جيلا لا يلقي معاذيره بقدر ما يكون على نفسه بصيرا!

تعليق عبر الفيس بوك