يكفي النبش في الماضي

زاهر المحروقي

الاعترافُ بالمرض هو سبب أساسي للعلاج؛ إذ إنَّ بهذا الاعتراف يتم البحث عن طرق العلاج الناجعة؛ لكن هناك من المسلمين من لا يريد أن يعترف بالأمراض التي عصفت بالأمة فجعلتها في مؤخرة الركب الإنساني في كلِّ العلوم والفنون بل حتى في الأخلاق، حيث ظللنا نتغنى بأمجاد الماضي؛ لذا وجدنا غير المسلمين هم من خدموا البشرية بامتلاكهم أدوات العصر من العلوم والتقنية والطب والفضاء والصناعة، مع الأمانة والانضباط والعدالة؛ فأصبحت الأمة الإسلامية تتسول من غير المسلمين أبسط أسباب الحياة. والغريب أن يقول أحد المشايخ "إنّ الله سخّر هؤلاء لخدمة المسلمين"، وهو كلام غريب كأنّ الله سبحانه يدعو إلى الكسل ويحابي أناساً كسالى على حساب أناس يعملون ليل نهار لخدمة الإنسانية، في وقت نجد أن المسلمين يعيشون بعيدين عن الواقع، ويتقاتلون حول أحداث تاريخية عفا عليها الزمن ويتجادلون في قضايا جانبية لا تهم البشرية في شيء ولا تعود بالنفع على الناس -إن علموا بها أو جهلوها- كالقضايا الغيبية، فكل النقاشات لن تغير في الأحداث التاريخية شيئاً بل تزيد من الانقسامات وتؤدي إلى إراقة المزيد من الدماء البريئة؛ والأغرب من ذلك أن يناقش الناس في هذا الوقت ما سبق أن أثار فتنة مثل قضية خلق القرآن، فيما القرآن نفسه يشتكي من الهجران، وكثيرٌ من المناقشات تتم الآن على هذا النمط، فكان من نتيجة ذلك تخلف المسلمين وتكفيرهم لبعضهم البعض لدرجة التقاتل، بسبب استدعاء التاريخ؛ والتاريخُ يجب أن لا يُستدعى إلا لأخذ العبر والاستفادة منه للمستقبل.

ربما ما كتبه الكاتب خالد منتصر في جريدة "المصري اليوم" يوم الجمعة 4/9/2015، فيه استدعاء للماضي، رغم أن الكاتب غالباً ما يبحث عن حلول للوضع الحالي المتأزم، إلا أنه في مقاله هذا غالى كثيراً في نقد الماضي، ونحن نريد حلولاً للحاضر وإضاءات للمستقبل، لذا لا بد من البحث عن هذه الحلول، فهو يرى أن جملة قالها الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وهي "ما كنتُ لأخلع رداء سربلنيه الله"، في وجه معارضيه، هي أخطر جملة قيلت في فترة الفتنة الكبرى، مفهومها ودلالتها هي التي غيرت تاريخ المسلمين وجعلته منذ تلك اللحظة ساحة معركة لمذاهب متقاتلة متطاحنة، وأن هذا الكلام تسبب في تعطيل وإعاقة التفاعلات السياسية الإيجابية المثمرة التي من المفروض أن تدفع وترتقي بالمجتمع الإسلامي، وأن "الحكم رداءٌ رباني وتكليفٌ إلهي، وأي محاولة اعتراض هي بالضرورة اعتراض على الإله نفسه الذي كلف، والذي ألبس، والذي جعل الحاكم وكيله وظله على الأرض"؛ ويقول خالد منتصر إن "نظرية الحكم الرداء وعبارة السربلة الإلهية التي خلطت الدين بالسياسة كانت أول عصا توضع في تروس العجلة الإسلامية، وتجعل قطار تاريخنا يخرج عن القضبان، وتنفصل عرباته إلى لافتات متناحرة ومذاهب متشاحنة يتربص كل منها بالآخر".

ويخلص الكاتب إلى أن تلك الجملة كانت عابرة "ولكنها عبرت السنين والقرون والقارات لتستقر مثل الرصاصة في قلب وكبد وعقل الأمة، ويموت في سبيلها عشرات الآلاف من المسلمين ما بين مفخخ ومفجر ومبتور ومبقور وغارق ومارق ومشوي على طريقة داعش، أو مذبوح على سُنة البغدادي والزرقاوي والظواهري".

من المصادفات أن يكتب أحمد صبحي منصور -وهو رئيس من يُعرفون بالقرآنيين- مقالاً في اليوم الثاني لمقال خالد منتصر في موقع "الحوار المتمدن"، تحت عنوان "ودوا لو تدهن فيدهنون"، تناول فيه الموضوع نفسه؛ إذ قال إن كثيراً من الناس يسألونه لماذا لا تكتفون بتوضيح عظمة الإسلام وإظهار الجانب الإيجابي دون فضح الجانب السلبي؟ ولماذا التركيز على الطعن في الحديث وما يعنيه هذا من بلبلة وتشكيك وتكفير للسواد الأعظم من المسلمين؟ فهذا لن يُمكن لدعوتكم النجاح، وستظلون في عداء مع الأغلبية المسلمة، والأفضل لكم الانتشار في هذه المرحلة ثم يأتي التصحيح بعد ذلك؛ ويقول كنا نرد بأن المصلح يتخصص في المرض وفي الجانب السلبي شأن الطبيب المُعالج؛ فالطبيبُ يعالج المرض داخل المريض، إذا كان قلبه مريضاً ومعدته سليمة فلن يكتب أشعاراً في مدح معدة المريض السليمة تاركاً القلب المحتاج للعلاج، ولو فعل ذلك لأصبح هذا الطبيب قاتلاً للمريض، وقال "إن "المحمديين" -وهو وصف يطلقه منصور على المسلمين المؤمنين بالأحاديث النبوية، باعتباره من "القرآنيين"- من قرون طويلة وهم يتغنون بالإيجابيات ويمتنعون عن مناقشة الجوانب السلبية وهي الأكثرية، فازدادوا تخلفاً وضعفاً، ويكفي أنهم حرموا نقد الصحابة والخلفاء الراشدين والفتوحات والفتنة الكبرى فعاشوا في نفق الفتنة الكبرى من مقتل عثمان وحتى الآن، وما تفعله داعش والوهابية هو نفس ما فعله الصحابة في الفتوحات والفتنة الكبرى؛ والعالمُ كله يتقدم من الصين واليابان وإسرائيل إلى أمريكا والبرازيل، والمحمديون يقتتلون ويتخاصمون حول موقعة كربلاء وصفين".

شخصيًّا.. أرى أنه من الصعب أن نخطئ خالد منتصر أو أحمد صبحي منصور فيما ذهبا إليه؛ فالموروثُ الإسلامي هو الذي أوصل المسلمين إلى ما وصلوا إليه، خاصة أنهم تركوا الاهتمام بالحاضر والمستقبل وركنوا إلى البحث في أحداث الماضي عن أسباب الخلاف، والتاريخُ يسجل أن حتى المبشرين بالجنة تقاتلوا فيما بينهم؛ والحقيقة هي أن ما يحدث الآن في الأمة هو من نتائج تلك الأحداث، ولكني أرى أن الأهم من ذلك هو ترك الاهتمام بهذه المسائل، والتركيز على تغيير المناهج والمحاضرات والبرامج الإعلامية، بحيث يتم التركيز على الاهتمام بالمواد العلمية والتركيز على التدريب المهني والصناعات والإنتاج، وترك المواد النظرية أو التاريخية للمختصين فقط؛ لأن التركيز على مآسي التاريخ لم ينتج إلا مآسي جديدة، وهي بدورها ستنتج مآسي جديدة للأجيال القادمة، في وقت يشهد فيه العالم قفزات كبيرة في العلوم والتكنولوجيا، ونحن ما زلنا مستوردين حتى لأبسط الأشياء التي كان يمكن أن ننتجها بأنفسها؛ فهل سيفيد الأمة الإسلامية فتح الدفاتر القديمة الآن وهي السبب في كل المآسي التي تشهدها الأمة؟

صحيحٌ أن الصحابة ليسوا معصومين، ولكن هناك أولويات يحتاج أن تركز عليها الأمة حالياً، منها مواجهة فكر جماعات كداعش بفكر عصري، لأن المذابح التي قامت بها داعش لم تكن إساءة للمسلمين فقط؛ بل كانت إساءة للإسلام كله، حيث انتشرت التعليقات على ذلك عبر وسائل التواصل، بأن ما تفعله داعش كأنه من صميم الإسلام وأن تاريخ الإسلام كله تاريخ دموي، وهو كلامٌ ليس صحيحاً "بالمطلق"، وقد اختلط الأمر على الكثيرين خاصة من الأجيال الجديدة التي تستقي معلوماتها من هذه الوسائل فقط، وتبحث عن المعلومة السريعة حتى لو كانت خاطئة.

وإذا كان صبحي منصور يرى أنه من الخطأ التركيز على الإيجابيات فقط، -ولا أتفق مع رأيه-، فهناك من الكتاب من ركز على هذه الجوانب، حيث كتب عدة كتب وتراجم عن الشخصيات الإسلامية، مثل الراحل خالد محمد خالد، الذي لقيت كتبه إعجاباً واسعاً، خاصة الإسلاميات التي تميزت بجمال اللغة وطريقة التناول، وأشهرها كتاب "خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم"، الذي ضم بين دفتيه خلفاء الرسول الأربعة، إضافة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين، وكتاب "رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم"، الذي تحدث فيه عن سيرة ستين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اتسمت كتبه بالإخلاص والعاطفة الصادقة الجياشة، فقابلها الناس بالقبول الحسن، لأنه لم يتطرق إلى ما يفرق الأمة بل بحث عما يجمعها؛ فأمام الوضع الذي نعيشه الآن فإننا نحتاج إلى مثل هذه الكتابات لأنها هي الأنفع، فلا يمكن أن تتقدم الأمة طالما تعيش في الماضي وتبحث فيه عن السلبيات على حساب الحاضر والمستقبل، ومتى ما كان الناس مشغولين بالبحث والعلم والعمل والصناعة والانتاج وبإعمال العقل، فلن ينشغلوا بالماضي، ولكنه الفراغ الذي يعيشون فيه.

لا ينبغي إلغاء النقد من قاموسنا؛ إلا أن النقد يجب أن يكون بيد مختصين وأمناء بعيداً عن العوام، فكثيراً من الأمور عندما وصلت إلى العامة أشعلت النيران بين طوائف الأمة، والدليل ما يحدث في مواقع الحوار.

تعليق عبر الفيس بوك