في "تل أبيب" مستهل العام الجديد

رحاب أبو هوشر

لم ينقذ مشهد العام المُنقضي 2015، من حالة اليأس من الحاضر العربي وقتامة المستقبل، إلا اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، التي داهمت مناخات "الإخوة الأعداء"، وأعادت موضعة البوصلة نحو العدو التاريخي والوحيد للعرب. ولم تتوقف عن شحننا بالأمل، ودخلنا العام الجديد بعملية فدائية في قلب تل أبيب المحتلة.

الكتابة عن فلسطين التي في الذاكرة والوعي والقلب، والاقتراب من تخومها مسألة صعبة، تهون دونها كتابات كثيرة، فهي حالة تعاش بالكامل، وتتجرعها الروح قطرة فقطرة، وتجري مع النَـفس اليومي لكل فرد منّا عبر تفاصيل حياته. وهي ليست موضوعا للإنشاء المثير للشفقة، ولا للصراخ الشعاراتي المُمل، ولا اعتصامات بات بعضها يُثير المرارة والأسى، حين يُحاول كل فصيلٍ أو تنظيم الاستئثار فيها بالميكروفونات، لحصد الشعبية وحفظ المكاسب، على ظهور البسطاء الأنقياء، وذوي النوايا الطيبة والمبادئ الوطنية الصادقة. والكتابة عن فلسطين ليست أيضًا، من أجل التباكي على احتلالها، أو اللوم وتقريع الذات، بل حالة مختلفة ينبغي للمرء أن يُفكِّر طويلاً قبل صياغة عباراته بحقها، ونشرها أمام النَّاس، ثم النوم بهدوء مريع، وكأن الواحد منِّا قد أدى واجبه واستراح، فيما فلسطين نفسها تئن ولا تنام، وشعبها بين قتيل وجريح ومهجّر ومعذب وسجين، أو غرباء في منافي بعيدة.

وأن يكون المرء فلسطينيًا، فهذا لا يعني على الإطلاق أن يكون مولودًا هناك، أو ينتمي إلى شعبها برابطة الدم، فالانتماء الفكري والإنساني هو الأساس وليس العائلي والقبلي، فكم من فلسطيني لا يمتُ للقضية وأهلها بصلة، بل قد يعمل ضدها، وكم من سوداني أو عُماني أو إماراتي أو أردني، أو حتى من جنوب أفريقيا والسلفادور، ينتمي لفلسطين فكرًا وقلبًا وضميرًا، ربما أكثر من بعض أهلها، فقد لا يستوي الدم والفكر أبدًا، في تغليب النوازع الشخصية، والارتباطات المادية، وطغيانها على المبادئ والقيم والانتماء. وتلك مسألة كان الأديب الراحل غسان كنفاني واضحاً بشأنها في روايته "عائد إلى حيفا" إذ إنّ الطفل الفلسطيني الذي نسيه أهله خلال نكبة 48 أصبح ينتمي قلبًا وقالباً إلى الإسرائيليين، ولم تستطع الدماء الفلسطينية التي تجري في شرايينه تغيير موقفه ليعود إلى أهله.
خلال السنوات الكثيرة التي انقضت، تجرعنا العديد من الكتابات الأدبية التي تتحدث عن فلسطين، سواء تلك التي كتبها أدباء فلسطينيون في وطنهم المحتل، أو الشتات، أو من الأدباء العرب والعالميين، وثمة الكثير من الغثاء والإنشاء والركاكة، ألقيت في وجوهنا باسم القضية، ولهذا فإنّ تأثير بعض الكتابات كان لا يُذكر، وبعضها كان آنياً يثير المشاعر فقط ثم سرعان ما يزول، وبعضها الآخر كان مضللاً، أي أنّه قدم صورة غير حقيقية عن الفلسطيني، برفعه إلى السماوات وجعله كائناً شبه مقدس، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وربما لكل هذا رفع الراحل الكبير محمود درويش صوته عالياً: ارحمونا من كل هذا الحب.

اليوم آن الأوان لقراءة الأدب الذي كُتب عن فلسطين، خلال أكثر من ستين عامًا ماضية على الأقل، بعين متفحصة وناقدة غير التي اعتدناها، لغربلته وفصل الجيد عن الهزيل، وهذه ليست مسؤولية النقاد الفلسطينيين وحدهم، بل تعني أيضًا الكتاب العرب أينما كانوا. وهناك مسألة أخرى، تتمثل في ضرورة الانتباه إلى أولئك الأدباء العالميين الذين ينتمون لفلسطين قضية وشعبًا، من أجل شكرهم على الأقل، واستمرار التواصل معهم لتشكيل جبهة ثقافية حقيقية معهم، فاللعبة الأكيدة التي انطوت على الكثيرين خلال السنوات القريبة الماضية، كانت تحجيم هذه القضية العالمية لتصبح "مشكلة" خاصة بالفلسطينيين، عليهم التعامل معها وحدهم، حتى بعيداً عن عمقهم العربي الاستراتيجي، وإلغاء عبارات مستهلكة مثل "المصير المشترك" و"نبض الأمة" من المؤتمرات والخطط والخطابات.

خلال طفولتي ومراهقتي، قرأت العديد من القصص عن "برتقال يافا الحزين"، وظللت أتخيل طويلاً منذ ذلك الحين، أنّ فلسطين هي بيارات للبرتقال شديدة الخصوبة، عظيمة الجمال، اغتصبها المحتلون، ولكن المسألة أكبر، وأكثر تعقيدًا مما تمّ تصويره بسذاجة حينًا، وبمشاعر ونوايا طيبة أحياناً، لكن "الطريق إلى جهنم مُعبدة بالنوايا الطيبة"، فالمخطط الصهيوني اليوم، لا يهدف فقط إلى طرد بقية الفلسطينيين من أرضهم بشتى الطرق، بل إلى تغيير تاريخ المنطقة برمته، وتأسيس جغرافيا مزورة بديلة، وتدبيج حكاية مغايرة عن حضارة متطورة بأعراق مُتميزة، يجب على العالم أن يدعمها ويصدق روايتها الخادعة والمضللة، وما هذه الحروب التي تمزق عالمنا العربي، وتدمر هويته وتشرد شعوبه، إلا مرحلة كبرى من ذلك المخطط.

تعليق عبر الفيس بوك