حُمّى الاستهلاك والاستعراض

أمل عامر السعيدية

تقول إحدى الفتيات، إنها تقبلت فكرة شراء حقائب مقلدة من الدرجة الأولى لماركات عالمية مسجلة بعد أن شاهدت شخصيات مشهورة في الوسط الإعلامي العربي تشتري من نفس المحل الذي تبتاع منه عادة هذه الحقائب، وشعرت بعدها بالرضا عن نفسها. لك أن تتخيل عزيزي القارئ كيف أن ضغطاً كبيراً كان على عاتق هذه الشابة لأنها لا تستطيع أن تحظى مثل فتيات اخريات بمجموعة من المقتنيات باهظة الثمن. وكأن تحقيق الإنسان لذاته واستقراره النفسي مرتبط بشراء حقيبة قيمتها 500 ريال. لقد أصبح الجميع شركاء في هذا السباق الذي صنعته لنا الرأسمالية، كما لو أننا كائنات مجندة، موظفة للاستهلاك دونما توقف، وقضية حياتنا هي شراء مجموعة من الحاجات.

ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في نقل هذا المرض العضال أكثر. حمى الشراء، حمى الاستعراض. فعندما تشتري إحداهن عطرا من الماركة المعروفة تقوم بوضع صورته على كل حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي، وإن لم تكن تمتلك ذلك العطر ستشعر بالحسرة، وستكره حياتها لذلك، بل إنها ستظن أن سبب بؤسها الحقيقي هو عدم امتلاكها لهذا العطر. ليس هذا فحسب لقد وصل الاستهلاك إلى شكل الإنسان، فأصبحت هنالك معايير لقبول شكل الشخص ومظهره. فأن يكون أنفك مفلطحاً أو تعاني من حب الشباب أمر غير مقبول بالمرة وما يدعو للتعجب هو أن ظهورك بشكلك هذا قد يعرضك للسخرية وعندما تقرر أن تغير شكلك عبر الخضوع لعملية تجميل، سيهاجمك الناس الذين هاجموك بشكلك السابق بدعوى أنك مزيف أو تغير في خلقة الله وأشياء أخرى لا تخطر على البال.

لديّ صديقات على حسابي في "السناب شات" أعرفهن جيداً لكنهن لا يظهرن بشخصياتهن الحقيقية ولا يصورن بيوتهن أبداً خوفاً من عدم تقبل الآخرين لهن، لكنهن في المقابل لا يتوقفن عن إرسال صور الطعام في المطاعم الشهيرة، ولا صور البضائع التي يحصلن عليها من محلات معروفة. إن هذا الخوف الذي لا يمكن إنكاره يجعلني أفكر في هذا المأزق الذي يتقدم الإنسان في طريقه يوماً بعد الآخر. الجميع يريد أن يحقق ذاته وأن يقبل من الآخرين، وأن تكون هذه هي الطريقة لفعل ذلك فهو أمر مرعب وبالغ الخطورة. ليس لأن الإنسان يصبح وحيداً أكثر فقط ولكن لأن ترسيخ المادية بهذه الطريقة لا يفضي إلا لهذه النتيجة التي يظهر عليها العالم اليوم. التطاحن البشري اياً كانت هي الأقنعة التي يختبئ وراءها.

في فيلم للمخرج السويدي روي اندرسون "حمامة حطت على غصن تتأمل الوجود" الذي أنتج عام ٢٠١٤، يبيع رجلان مجموعة من المواد المسلية بهدف ترفيه الناس. وأكثر تلك الأدوات مبيعاً هي "أسنان مصاص الدماء". الجميع يريد أن يتسلى بلعبة مصاص الدماء هذه. وأن تكون هذه اللعبة ممتعة أو مضحكة لهو أمر عادي جداً ولا يدعو للدهشة. فكلنا وعبر طرق مختلفة نبتاع أسنان مصاص الدماء هذه بدعوى أنها ترفيهية. مما يجعل السؤال عن وجه الترفيه فيها أو جدية التسلية التي يمكن تمنحها غريباً ومضحكاً بل إن سؤالك عنها قد يعني بالنسبة لمن يلعبون هذه اللعبة محاولة لصناعة منطقة تمايز بينك وبينهم. وقد تنعت بأوصاف من قبيل : المغرور، المثقف الوحيد على هذه الأرض.

وبطبيعة الحال انا لا أعني بهذا المرأة فقط، حتى الرجل موجود في هذا السباق وإن تغيرت البضائع. عندما قمت بمتابعة مجموعة من ما يسمى بـ "الفاشينستا" حالياً وهن نساء يقمن بالترويج لشركات مختلفة عبر حياتهن اليومية، شعرت برغبة بإلقاء نفسي من أعلى طابق ١٠٠ في بناية طويلة، لا تتوقف الواحدة منهن عن الترويج لبضائع طيلة ٢٤ ساعة تقريباً وتقوم بتجنيد أسرتها إن لزم الأمر لخدمة هذا الهدف. إنه نوع جديد من الاستعباد سواءً عبر استلاب حياة هؤلاء أو إيهام الناس بأنّ السعادة إنما تكمن في الاستهلاك وتحديد معايير لكل صغيرة وكبيرة في حياتهم، فأن تكوني سيدة محترمة يعني أن ترتدي فستاناً معيناً وأن تكون سيدا جديرا بالاحترام يعني أن تمتلك سيارة فخمة. وكأن جوهر الإنسان، نقاؤه وسعيه للخير، وبحثه عن الصداقة والحب، وصناعته للفن، وترميمه لقلبه الذي يواجه ثقل العيش أمورا لا تهم.

عليك صديقي القارئ أن تتمسك بنفسك ما استطعت لذلك سبيلاً وأن تكون حراً وأن تختار ما ترتديه وما تقوله وأن تتقبل شكلك فنحن نعلم جميعاً أنك لم تختره، فأنت جميل هكذا، جميل جداً عندما تكون حراً لا تقيدك رغبتك بسلعة ولا رأي الناس في هذا.

تعليق عبر الفيس بوك