مواقف خالدة في ذاكرة معتقة (1)

علي بن كفيتان بيت سعيد

في الحقيقة يجب أن أعترف لكم بأنني لست من المحترفين في كتابة السير الذاتية أو حتى المنقولة عن الآخرين؛ ولكن الإنسان ومن واقع خوفه من ظاهرة الرحيل الأبدي يتذكر الكثير من المواقف التي مرّت عليه في حياته وطواها سجل الزمن، ومع ذلك تبقى حاضرة بحلوها ومرها في حفيظته. الكثير من النّاس يدفعهم هذا الخوف والشغف معًا للرجوع لتلك الأيام، ودائما يسأل نفسه لماذا لا أوثق شيئا من تلك الذكريات المحفورة في ذهني والتي سترحل معي إذا غادرت هذه الدنيا ولن يعلم عنها أحد. ولقد ألحّ علي أحد المسنين في المنطقة ويدعى (محمد) أن أنقل بعض ذكرياته للعامة ونزولا عند هذه الرغبة سنبدأ هذه السلسلة من الذكريات آملا من الله العلي القدير أن تنال استحسان من يقرأها وألا تكون ضيفا ثقيلا على صفحات هذه الجريدة الغراء.

استهل محمد بوحه العميق بقوله: تحضرني مشاهد مشوشة هي الأولى في ذاكرتي طالما حلمت بأن أرفع جودة عرضها بحيث تكون أكثر وضوحًا، وأن تسعفني التقنيات الحديثة لذلك، ولكن هيهات فالعلماء إلى اليوم لم يتوصّلوا لهذه التقنية. المشهد الأول هو عن وجود القليل من الطعام واللباس في كهف كم كان محمد يراه كبيرا وواسعا آنذاك، والناس يمتهنون الرعي وتربية الماشية، ويقول: كنت مكلفا برعاية قطيع من العجول المزعجة حيث إنّها تسرح وتمرح في المرعى فرحًة بوفرة العشب ونزول المطر، وكان يتوجب عليه بجسمه الشاحب الضعيف أن يلاحق هذا القطيع طوال النهار، لم يصل محمد السادسة بعد ويقوم بهذه المهمة الصعبة ولم يسأل نفسه يومًا قط بأن يتخلى عن مهمته اليوميّة إلا في بضعة أيام عندما يمرض ويخلد فيها للجلوس في الكهف الواسع من النساء والأطفال، وكم يكون ذلك مملا حسب تعبيره، فالنساء بعد القيام بمهامهنّ اليومية الكثيرة كتنظيف الزرائب وخض الحليب لإنتاج السمن ومهمات أخرى كثيرة يذهبن إلى عين الماء لجلب المياه في القرب الجلديّة لسقي الناس والعجول والأبقار المقعدة، ويبقى في الكهف الأطفال وكبار السن لرعايتهم.

عندما يحلّ المساء يعود الأب للبيت محملا بما جناه للأسرة، فالناس لا يعرفون التخزين لأنهم ببساطة لا يملكون ما يخزّنونه فمعظم المأكولات طازجة من الحليب والروب أو فاصوليا وثمار الأشجار البريّة؛ وإن توفر بعض الطحين والأرز فهو قليل ونادر، ويقول محمد وهو سارح بعينيه لذلك الزمن كم كان طعم الشاي المطبوخ بالحليب البقري شهيًا! وكم كان مريحا النوم عندما يحل المساء بعد هذا العناء اليومي لخدمة الأسرة بكل تفان..!!

يقول محمد في كهفنا كان هناك راوٍ للقصص، وهو رجل كبير في السن يتحلق حوله الجميع في المساء على النار، وخاصة الأطفال ليحكي قصصا واقعية وأخرى من الخيال لا يزال يذكرها جميعًا إلى اليوم وبعد ذلك يأوي إلى حضن جدته الدافئ رحمها الله، فالبيت كان على سقف زريبة المواشي والسقف هو الكهف الحجري وكم كان صوت ثغاء الأبقار وحركتها طوال الليل في السرداب مزعجاً، وفي ذات الوقت يقول محمد علّمنا ذلك ألا ننام كما ننام اليوم، فهذا القلق الليلي جعل النوم فقط لكي تعيد شحن بطاريتك المنهكة، وفورا يمكن للواحد أن يقوم على تسبيحات الجدة في الهزع الأخير من الليل.

الجدة رغم أنّها لم تتعلم إلا أنّها تجيد معظم الأدعية والتسبيحات التي يحثنا عليها الشيوخ في الفضائيات اليوم قبل وبعد الصلاة، كم كان ذلك مريحًا أن ترى هذا الملاك (جدتي) تركن في زاوية هذا العريش لابسة أنظف ما عندها ساترة كامل جسدها تصلي الفجر بكل سكينة ومن ثم تكمل وردها الصباحي لتناديني بعد ذلك (محمد قم صلي الفجر يا صغيري) لم تنهرني جدتي يومًا طوال عمرها.. أحببت الصلاة وأحببت الناس جميعا لأنّها لا تحب الحديث عن الناس إلا بالخير. وإذا سمعت النميمة كانت تنصرف من المجلس.

أكاد أجزم لكم بأنّ هذا ليس حكرًا على جدة أخينا محمد بل كانت معظم جدات ذلك الزمن الجميل بهذه المواصفات البريئة الطاهرة، ولذلك كانت الأجيال التي خرجت من تحت تربية هؤلاء المعلمات في ذلك الوقت أجيالا طامحة للتغيير ومغروسة في نفوسها المحبة والتفاني؛ لأنّ الظروف الصعبة هي من خبرت هؤلاء الناس.

حفظ الله عمان وحفظ قابوس

alikafetan@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك