سحر الحكاية الهنديَّة

أحمد الرحبي

عن بَوْق سحري يتذكر كل كلمة تقال ويعيدها كلما طُلب منه ذلك، وعن غيمة بيضاء تتقاتل مع غيوم سوداء فيسقط المطر فيعود النسغ والتخلق للحياة، ونسر وثعلب يدخلان في معركة مع الارواح الشريرة التي تحبس الشمس والقمر في صندوقين وتمنعهما من الوصول إلى الأرض، وعنكبوت تجلب بحيلة ذكية النار لأهمية الحاجة إليها من أجل الدفء والطعام، وطفل يصنع من الطين الذي بللته دموعه حيوانا قويا أقوى من الكلب واكبر، كل ذلك يمكننا استساغته في سياق حكاية دون أن نتثاءب من الملل؛ فلا يزال للحكاية بتلك الصياغة العفوية والمباشرة سحر تمارسه علينا.

فالحكاية تمثل السجل الحافل بكل الموروثات الثقافية والجوانب الأسطورية لحيات الشعوب، والتوثيق لملحماتهم في الزمان/المكان، فأدب الحكاية إذا نظرنا إليه عن قرب، نجد أنَّه حصيلة لجهد جماعي توالت آلاف الأجيال عبر القرون من حياة شعب ما، على المساهمة فيه ورفده بالإضافة المتجددة، وذلك من واقع حياة الشعب المعاشة على الأرض.

وتأتي الحكاية كتسجيل لتجربة طويلة حافلة مورست من قبل شعب من الشعوب أو مرحلة مهمة من حياة هذا الشعب؛ فهي سجل جمعي موثق لهذه التجربة بذلك الطابع الشفوي لتسجيل التجربة ولاستخلاص الحكمة، أو كآلية يدفعها الحنين لاستعادة الماضي مؤسطرا، على ذلك فأن الحكاية يبدو أنها كانت في مراحل موغلة من التاريخ الإنساني هي بمثابة الوقود المعنوي للشعوب، فمن خلالها يجري التغني والتفاخر وحتى الحنين والاستعادة المعنوية للماضي.

أما الجانب الأهم في أدب الحكاية -والذي يعطي هذا الأدب سحره الخاص- فهو الجانب الأسطوري؛ حيث يتمثل دور الأسطورة في هذا الأدب، بأنها المفسر للكثير من التساؤلات التي أرقت الشعوب القديمة وبحثوا لها جاهدين عن أجوبة، حول بعض المسائل الوجودية على رأسها الموت، والظواهر الطبيعية التي تحدث من حولهم باستمرار دون أدنى معرفة بكنهها.

وفي كتاب "حكايات الهنود الحمر الأمريكيين" وهو للكاتب التشيكي فلاديمير هلباتش الذي جمع فيه حكايات الهنود الأمريكيين وأساطيرهم صادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، ما هو توثيق إنساني وحضاري وثقافي من خلال الحكاية لآثار أمة لم يعد لها وجود فعلي إلا عبر نتف من التسجيل الأنثروبولوجي أنجزه شاحبو الوجوه (الأوروبيون) كما يوصمون في حكايات الهنود الحمر؛ ففي حكاية الحكايات عند الهنود كان السلام يسود، ودعا الروح العظيم زعماء القبائل، وأمر بإشعال النار وإعداد المخيم، فانتشرت الحيوانات كلها، الدببة والغزلان والأرانب والذئاب والطيور تجمع الأحطاب وتقطعها.

واختار الروح من أنحاء البلاد بعضا من حجارتها وطينها وأعشابها ونفخ فيها فتحولت إلى غبار ناعم، ثم غسل يديه في البحيرات والأنهار وصنع "قلموت" بوقا سحريا وقدمه إلى "داكوتا" وقال له: هذا البوق يتذكر كل كلمة تقال ويعيدها لكم عندما تطلبون منه ذلك، ثم مضى الروح العظيم وتلاشى كدخان بددته نسائم المساء. وتجمع الزعماء كلهم حول النار ورووا حكاياتهم ليحفظها القلموت، وجاء يوم جديد وانطفأت النار، وتفرق الشيوخ، وبقي البوق وحده.. وجاء شاحبو الوجوه (الأوروبيون) على سفنهم ومعهم الأمراض وماء النار (الخمر) وطردوا الهنود من مرابعهم، وأطبق النسيان على البوق، وترك محطما في الغبار.

وذات يوم، وجد صبي البوق فأخذه إلى بيته ونفض عنه الغبار، وفي المساء عندما أشعلت النار تحدث البوق مرة أخرى.. قال القلموت: كانت أمنا الأرض تغط في نوم عميق يحيط بها الظلام والغيوم السوداء، ثم جاءت غيمة بيضاء وتقاتلت مع الغيوم السوداء فسقط المطر وهبت الحياة، وخرجت الحيوانات من أوكارها وسباتها.. إلى آخر الحكاية.

تعليق عبر الفيس بوك