مسرحيات كان بطلها الصحراء

 

ليلى البلوشية

برعاية دائرة الثقافة والإعلام -إدارة المسرح- أُقيمت فعالية مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي في دورتها الأولى، أربع ليال في قلب الصحراء، ليال كانت محفوفة بالإثارة البصرية والحسية والسمعية، ليال شحذت الذاكرة الحديثة؛ كي تعايش وقائعَ كانت قد جرت في أعوام سحيقة لتاريخ لا يأفل، تاريخ جدير بالتذكر.

حين دُعيت لحضور هذا المهرجان في دورته الأولى من نوعها في العالم العربي؛ حيث العروض المسرحية التي تعرض في فضاء مفتوح؛ حيث الطبيعة بكامل عناصرها كما خلقها الله كانت ديكورا لتلك العروض، لم أكن أتوقع أن الصحراء بإمكانها أن تكون بيئة مذهلة للعرض، بيئة تتوفر فيها كل المقوّمات التي يحتاجها كوارد العمل المسرحي، لا سيما تلك العروض التي تُلهم من ذاكرة الماضي وارتباطها الوثيق برمال الصحراء وأجوائه.

أربع ليال والصحراء هي البطل بلا منازع، بطل الأجواء والضحكات والروح الملحمية التي استطاعت أن تثبت لنا، لجمهورها الذين هبّوا إليها من كل حد وصوب، من منافي المدن، من ضجتها، من صخبها، من متاعبها، من مشاغلها العادية، من غربة المغتربين، لتؤمهم بحنان فائض وترين دفئها عليهم، دفء حكاياتها وعروضها المسرحية الشائقة رغم برودة الجو في تلك الليالي المضيئة.

استطاعتْ الدورة الأولى من هذا المهرجان الصحراوي أن تعرض تنوعا مسرحيا يتوافق وأذواق الجمهور الذي بدأ بعرض ملحمة شعرية "مسرحية علياء وعصام" لسمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، التي جيّشت مشاعر الحاضرين باستعراضاتها الغنائية، وحكاية عنوانها الحب المستحيل في ظل تاريخ يسعى للتشفي من جراح ما اقترفه الأجداد.

وفي الليلة نفسها -التي كانت مضمخة بالشعر والفروسية، ورائحة ماض عريق- كان عرض مسرحية "طوى بخيتة" للمؤلفة مريم الغفلي وإخراج يحيى البدري مستعرضا البيئة الصحراوية القاسية بمثله وعاداته، وفي الليلة الثانية كانت القافلة السعودية "شدت القافلة" من تأليف فهد ردة الحارثي وإخراج مساعد الزهراني التي شدت الرحال إلى قلوب الناس بأهازيجها الشعرية التي تستدعي الخصوبة، خصوبة الإنسان من خصوبة الأرض هو امتداد تاريخي منذ قيام الأرض، وفي الليلة الثالثة استطاع المسرح الموريتاني "نسمات من الصحراء" -من إخراج التقي سعيد- أن يقدم عرضا حافلا توافرت فيه من العناصر التي استقطبت جمهورا موريتانيا استقر معظهم في أراضي دولة الإمارات وجاؤوا بمحبة كبيرة لمشاطرة أحبائهم من الوطن الذكريات التي حملت إليهم بعد غربة مديدة. أما الليلة الأخيرة كان العرض الأردني "حكاية من البادية" من إخراج "محمد الضمور" هي حكاية من الموروث الشعبي الأردني الغني الذي تخللته أشعار من البادية كان جرسها كالماء الجاري في أفئدة السامعين، فتكون خير ختام لتلك الليالي المشتعلة ليس برائحة الشواء فحسب بل بكل مظاهر العذوبة، بدءا من الجمهور الذي حضر بمحبة واقتعد على الأرض، على وسائد من قماش تقليدي، تلهب ذاكرة الماضي ورائحته، لقد استغنى هذا المسرح عن خشبته، كما استغنى الجمهور عن كراسيهم، لقد كانت رمال الصحراء هي الخشبة وكانت هي نفسها مقعد الناس الحاضرين، لقد تخللت تلك المسرحيات بعد عرضها مسامرات نقدية طازجة، كانت تنم عن روح ممتدة ما بين النقّاد والممثلين والمخرجين والجمهور أيضا، كما قال الناقد المسرحي حازم كمال الدين: "المسرحية ليست من يكتبها على الطاولة، المسرحية هي علاقة الممثل بالمخرج أثناء الارتجال وأثناء صناعة المشهد".

ومن جميل تنظيم المهرجان التعريف بثقافة البلدان التي قدمت المسرحيات؛ ففي الليلة الأولى بعد العرض المسرحي الإماراتي تم تخصيص عشاء إماراتي يليق بالحضور، في الليلة الثانية كان عشاء سعوديا، وفي الليلة الثالثة كان عشاءً بطابع موريتاني، أما في ختامها فكان المنسف الأردني الشهير، ناهيك عن الهدايا التراثية التي نظمها إدارة المسرح في الشارقة، لتعريف الجمهور بثقافة البلد وتراثه من صلب تاريخ عتيق يعاد إحياؤه عبر تنظيم مهرجانات وفعاليات تمس روح البيئة الخليجية، وتحيي الذاكرة الشعبية بحكاياتها المتنوعة.

لم يكن غرض هذا المهرجان تنافسيا، بل كان استقطابا إلى الصحراء، بيئة الإنسان العربي الأولى، التي فطم منها طفولته وترعرع، البيئة الصحراوية المشبعة بالحكايات والألغاز، الأم الصحراء التي كانت رغم امتدادها اللامحدود وغموضها وجدبها حينا وخصوبتها حينا آخر تنعم بالأمان لكل من يردها من العابرين.

المسرح الصحراوي في دورته الأولى شرع أفقا حقيقيا نحو عالم مسرحي متجدد واقعي ومن قلب البيئة، مسرح حرّ بلا جدران، مسرح يأتي بكامل معدّاته إلى جمهوره، ليكون منفتحا، قريبا، ملغيا بذلك حدوده الوهمية التي يستشعر بها الجمهور حين يكون أمام خشبته.

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك