مبدأ الألم

عهود الأشخرية

"أمي

أمن سفر نام على الرصيف؟

وأنتِ أول وجهة الوطن المعاد إليّ

من بعد الغياب"

"أماه يؤلمني أن أغفو وأنتِ مريضة

تتقاسمين هشاشة النسيان

والمعنى يراه أبي وحيدا" (1)

بالمبدأ ذاته الذي يفسّر أن الكاتب إذا استيقظ وشاهد قتيلا ووردة؛ فمن المخجل أن يكتب قصيدة في الوردة، لذا هآنذا أترك كل ورود العالم الحقيقية والمجازية جانبًا، وأنشر أحزاني وآلامي وهواجسي على حبال الكتابة حتى تبدو مرتبة بطريقة لائقة، فحقًا لا أستطيع أن أكتب عن لحظة سعيدة وهادئة وبجانبي روح تتألم، وليست روحًا عادية! إنّها أمي. وأيضًا بقرب تلك الروح أرواح أخرى قريبة وبعيدة تتشارك في الألم حتى وإن تباينت مراحله، ذلك أنّ الألم هو الألم!

وعلى الرغم من أنني لا أعرف تلك الأرواح التي تنكمش؛ لكنني أستطيع أن أشعر بذلك الأنين الذي يخرج كل ليلة من الأسِّرة البيضاء التي تفصل بينها الستائر الطويلة، ويمكنني أن أؤمن أن الألم الجسدي هو الذي يسبب ألم الروح وبذلك فإنّ المريض يمتد مرضه إلى مراحل نفسية إذا لم يستطع المقاومة، إنني الآن وبكل ما لديَّ من قناعة أقول أنني أكره السرير الأبيض والأدوية والنحل الذي بنى خليته في نافذة أمي وأكره عطر الياسمين الذي تتشبع به الغرفة كل يوم.

أكره كل هذه التفاصيل التي تذكرنني بالوهن الذي يصيبنا فجأة، بالمقابل فإنني لا أستطيع التعبيرعن حبي لأمي المريضة إلا بالألم والبكاء، هذه الفكرة يثيرها ألبير كامو حين يقول: "لا يمكن التعبير عن الحب إلا من خلال الألم".. هذا القلب الذي يتلاشى شيئًا فشيئًا وكأنه سرب مهاجر إلى البعيد مليءٌ بالألم.. مليءٌ بالحب ... القلب الذي يصلي صلاة فاسكو بوبا التي أحب: "أتراني أستطيع في هذا الحقل المضطرب/ أن أنصب لك خيمة من يدي"، فهل يا ترى أستطيع أن أبني من كل هذا الألم والحزن والضعف لحظات مطمئنة آمِنة وزرقاء؟

في الوقت الحالي أعيش تجربة حقيقية بسبب بقائي مع أمي في المشفى التي تتلقى فيه علاجها، حيث أدركت خلال هذه الفترة أن كل الآلام التي كنت أشعر بها سابقا تافهة بالمقارنة مع ما أشعر به الآن، أشعر أنني أنقسم إلى جزيئات كثيرة وصغيرة وكأنني كنت مركِّبا تحلل إلى عناصر ضئيلة الحجم.

حالة الألم الذي أتحدث عنها وصفها ألبير كامو في الجزء الأول من مفكراته والتي عنونها بـ (لعبة الأوراق والنور). كتب كامو هذه المفكرات فكانت بعد ذلك مسودات أولى لأعماله الروائية والمسرحية، ومن أهمها (الغريب) و(الطاعون)، حيث أن هنالك الكثير من المقاطع التي أدرجت في تلك الأعمال سواء مع إعادة الصياغة أو بعض التغييرات الطفيفة، فحين قرأت الجزء الاول من مفكرات كامو؛ أحسست بأنني أستطيع أن أفهم طريقة تفكيره ورؤيته لتفاصيل كثيرة -أعني نظرته للآخر والطبيعة والألم والحب والزمن-.

فأما عن رؤيته الخاصة للألم؛ فهو يصف لحظة اليأس بعد طريق طويل من المعاناة على لسان صديقة تخاطب صديقتها: "أترين، إلى الآن وفي أسوأ النوبات التي تعرضت لها، كنت وما أزال أشعر بأنَ ثمةَ ما هو باقٍ، أملٌ بالحياة راسخٌ جدًا، اليوم، يبدو لي أنه لم يعد هناك ما يبعث على الأمل، أنا موهنة لدرجة أحسّ معها أنني لن أنهض أبدًا"، فهذه الصديقة كانت قد قطعت مشوارا طويلا في رحلة علاج لمرض تعاني منه لكنها لم تنجح في هذه الرحلة، فوصف كامو ألم المرض بصورة دقيقة جدا وحسّاسة مما جعله يُوصل هذه الحالة إلى التفكير في النهاية رغما عن كل شيء فيقول في وصف الألم من خلال وصف تفاصيل مقبرة: "مقبرة حي القطار/ سماء ملبدة وبحر بدين في مواجهة هضاب مليئة بمقابر بيضاء. الأشجار والأرض المبلولة، حمام بين الشواهد البيضاء، زهرة وحيدة من إبرة الراعي، زهرية وحمراء في آن، وحزن كبير، ضائع وأبكم يشعرنا بوجه الموت".

لكن كامو يستمر في ربط الألم والحزن بالحب، حيث أنه وضعهما في ذات النطاق فيقول: "نحن لا نخسر حياتنا حين نضعها في النور. كل جهدي، في كافة المواقف والمصائب والخيبات، هو العثور على معارف وإقامة علاقات، حتى مع هذا الحزن في داخلي، ياللرغبة الجامحة في الحب!"، وأظن أن ثمة سبب وجيها وحقيقيا لدى ألبير كامو لربط هذين المصطلحين ببعضهما في حالات كثيرة، هذا السبب نابع من تجربة حقيقية ومُقنعة.

إذن فمبدأ الألم يكون في ارتباطه بمشاعرنا وغاياتنا نحو من نحب.

(1) من نص لمحمود حمد.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك