في وداع عام

هلال الزَّيدي

* عندما يكون الإنسان في أوج عطائه، فهذا يعني أنه موجود، وعندما تنهار الصحة فسيكون مفقودا، نعم إنه ضرب من التناقض في حياة متفارقة.

* من على المنابر تعلو الأصوات بالكلمات المنمَّقة، ومن قعر الأرض تستنجد الجثث الملطخة برائحة الموت، وفي أنفاق السرية تتبادل القُبل بأحضان متسعة وكروش تتدلى خبثا وجبروتا، وفي السجون تنتهك الحرمات وتعلو أصوات الإغاثة فلا مجيب، وعلى فراش المرض تُخنق الشيخوخة احتقارا واستفزازا، وعلى الأرض تُرمل النساء وتُوأد الطفولة.. فبأي ذنب قتلت؟

* ليس السكوت هزيمة، وإنما حكمة لا يعقلها إلا العالمون بها، فكم من مواقف لا تحتمل الصراخ؛ فالصمت أبلغ رد لأولئك المثرثرين.

* هل أصبح التاريخ وافرًا بالخزي والعار؟ وهل البطولات أصبحت منعدمة حتى بقول يطفئ ثورة الشعوب؟ وهل الأمانة لا دليل لها في الحضارة العربية؟ وهل الرحمة رصاصة لما تدخل البندقية بعد؟ وهل الزناد موقوف ومحجور عليه بوقف التنفيذ لنصرة المظلوم؟ مجرد علامات استفهام ليس إلا.

* الاتفاق على أنْ لا نتفق في كافة شؤون الحياة العربية فكر يتبناه الجميع، وقد أثبتنا فيه تفوقنا على كافة شعوب الأرض، والتفريط في حضارتنا وتاريخنا أصبح سهلا جدًّا ووقعنا تحت نقطة حبر نمحي بها تراث أجدادنا ونرسم بها حدود التفرقة والتعصب. وبشكل عام، أصبحنا في حال يُرثى لها، ومن يقع في دائرة القرار لا يدري بحالة الشعوب ولا يحس بألم الثكلى... والنائحة ليست كالثكلى.

* مشروعات مؤجلة، وأخرى تُرسم على ورق، لتذوب مع متغيرات الحياة.. فهل ندركها مثلا قبل فوات الوقت؟

* هل فعلا الأمة العربية أصبحت عاجزة عن أن تلد من يحنو عليها؟ وهل حقا اضمحلَّت السُّلالة التي تعرف صديقها من عدوها، ليظهر المراؤون والزنادقة والخونة؟ حتى على فراشهم الذي رسم مستقبلهم.

* أتعجب ممن يكتب وينادي بأنَّ الكتابة لا تقدر بثمن، لكنه عندما أراد كُتَّابا يكتبون له ومعه همَّش ثمن كتاباتهم، وقدَّرها كما يقدر "كيلو الجزر".

* هناك كلمات لا تُنسى، خاصة عندما يكتبها الأدباء الذين عرفوا ما هو الأدب، وهذا ما ينطبق قولا وفعلا على الشيخ الأديب حمود السيابي، فكم أنني محظوظ بكتاباته التي يخصني بها كل أسبوع عندما أضع مقالي الأسبوعي بين يديه، وهنا أضع تفاعله مع مقال "وطفلة نامت على قارعة الطريق"؛ حيث قال: "أجمل الأيام ما يبدأ بقصيدة وأعذبها ما يتنفس صبحها بموسيقى، والأجمل أن يكون الشاعر هو أنت، وقد أوتيت جوامع السحر، وأن تكون العازف، وقد ملكت عنان الوتر. ولقد مررت بصورة لطفلة تبيع الحلوى في شوارع الضياع العربي فتألمت، ونشر الشاعر شوقي عبدالأمير صورة لطفلة عراقية أثقلها السهاد وهي تبيع برسم الحاجة أقلاما خضراء، فتداخلت معه ومع غصص المشهد وسكاكين الحروف. إنَّه زمننا الرديء؛ حيث فلذات الأكباد التي يفترض أن تتشاقى في الجنائن تقطف وردة وتطارد فراشة وتركض وراء قطة سيامية وعصفور ملون، فنرى الأطفال يفترشون الدروب، ويضاجعون الجوع وقد صودرت أحلامهم، في عودة جاهلية لوأد الأطفال، وقتل الأنفس دون ذنب، ورغم السياق الحزين لمقالك، إلا أن المفرح فيه أنه كالشعر أصدق أغراضه الرثاء، والمفرح فيه أنه كالغناء أعذبه ما قارب حنجرة (حليم) لحزينة، وما تسكب من شجن الجرح والعذاب عبر حنجرة عبدالكريم عبدالقادر، دمت شاعرا وعازفا وفيلسوفا، دمت مبدعا".. فالقول هنا لا يحتمل التعليق لأنه من أريب وعالم.

-----------------------------

همسة:

همستي سيدتي ستكون اقتباسا من رواية لي لم تنتهِ بعد: "في تلك الأجواء، وبينما السكينة تغشاه، جلس مُتأملا في صغر هذا الكون.. فالكلُّ يلهث خلف سراب لا يعرفه أساسا؛ لذلك أراد أن يبحر بين أمواج القناعة، على مبدأ أن يعيش اللحظة بكافة تفاصيلها، وأن يترك مبدأ المبادرة، فأراد أن يكون مجيبا، لا سائلا؛ ليترك مؤشر شوقها بين ارتفاع وهبوط.. لكن سؤال مباغت يأتيه: لماذا طيفها يسابق سكوني؟ أيا ترى هل هو الشوق، أم أنها الوحدة؟ فبينما "هو" يحاول أن يفك تلك الطلاسم.. يأتيه بشيرها عبر الهاتف: " قالت السمكة للبحر: لن تستطيع أن ترى دموعي أبدا.. لأنني في الماء.. فرد عليها قائلا: لكنني أستطيع أن أشعر بدموعك لأنك في قلبي.. هكذا نحن البشر لا يشعر بدموعنا وآلامنا إلا من نسكن في قلوبهم.. صباح الخير"، مع وجود وردة تختم بها رسالتها.

عبر شعوره الذي قاده إلى الكتابة يرد عليها.. وبسرعة متناهية.. "صباح الأنوار.. أنا أشعر بكيانك لأنك سكنتي أحاسيس الشعور".. ليسود الصمت من جديد؛ فلا تعقيب، ولا تعليق.. هكذا هي تغرز في جسده سهام الشعور.. وتتركه يتألم ويتأوه.. وهي تغرد في سربها؛ ليستعيد فيما بعد وعيه ويبدأ في انتزاع تلك السهام واحدا تلو الآخر، ما أصعب انتزاع السهم؛ لأنه يخلف جروحًا عميقة، وتكون على مر الزمان ندبات، تشوِّه الثقة في تلك الأجساد التي تستبيح لك التمدد في كنفها؛ فمن الواجب أن تتعامل مع كل سهم بأنه طيش لمرحلة زمنية من هذا العمر الفان.. وعليك أن تكون درعا تتكسر عنده تلك السهام.

يستعيد قوته ونشاطه، فيمد بصره باتجاه الشاطئ؛ فقد حان وقت الذهاب إلى دفء تلك الرمال".

* كاتب وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك