الخريف العربي

حاتم الطائي

نستشرفُ العامَ الميلاديَّ الجديد، الذي يطلُّ علينا بعد أيام قلائل، ونحن مُثقلون بأعباء جِسَام وتركات مُستعصية، جرَّاء تراكمات "الربيع العربي"، ونتيجة للأزمة الاقتصادية التي تعصفُ بالدول الخليجية، بعد أن أصابَ أسعارَ سلعتها الإستراتيجية ومصدر مداخيلها الرئيسي النفط، داءُ التراجع، الذي إنْ استمرَّ بهذه المعدَّلات المتسارعة سيُدخل اقتصاداتها في غيبوبة لن تفيق منها في المدى المنظور!

ولنقف أولا بتأنٍّ مع "الربيع العربي" والمآلات الكارثية التي انتهى إليها، وتُثبت في مُجملها أنَّه كان الحلقة الأولى ضمن مسلسل بدأ ولم يَنْته بعد.

... إنَّ هذا الربيع الذي بدأ بالأماني الوردية، والأحلام الكبيرة، استحال في محصلته النهائية إلى خريف ماحق يعجُّ بالكوابيس، ويطفحُ بالحروب الأهلية والصراعات الطائفية والقتل والفوضى والدمار، بعد أن تمَّ اختطافه من قوى لا تريد للمنطقة وإنسانها أن يخرج من دائرة التخلُّف المفروض عليه، ولا أن يَنْعتق من أسر التبعية.

ورَغْم أنَّ الجميع انبرى على مدار السنوات الماضية من عُمر "الربيع العربي" لتشريح أسباب الانتكاسات، وتحليل مضمون الارتكاسات، إلا أنَّ أحدا لم يضع يَدَه بصورة قاطعة على مكان الجرح، ولم يتم التوصُّل إلى اليد الخفية التي كانتْ سببًا في انحراف مساراته صَوْب الفوضى والخراب، بدلا من التنمية والإعمار والتصحيح.

إنَّ كمَّ الكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، كانت نتاجا لهذا الربيع المغدور.. ويُمكن استقاء الشواهد على ذلك من تقرير المنتدى الإستراتيجي العربي، والذي يُبيِّن أنَّ التكلفة الاقتصادية التي تكبَّدها العالم العربي جراء أحداث الربيع، بلغت نحو 834 بليون دولار أمريكي؛ وأنَّ حجم الضَّرر الذي لحق بالبنية الأساسية للدول العربية وصل إلى 461 بليون دولار، وتسبَّبتْ الاضطرابات التي واكبتْ الربيع في تشريد أكثر من 14 مليون شخص، بلغتْ تكلفة إيوائهم في الملاجئ حوالى 49 بليون دولار.

وهذه الأرقام والمؤشرات، والدماء والاضرابات، تؤشر على أنَّ "الربيع العربي" تحوَّل بفعل فاعل من فرصة بناء حقيقية إلى أداة دمار تاريخية؛ الأمر الذي يدعم فرضية تحريك الأصابع الخفية لمكونات المشهد في منطقتنا بمختلف تفاصيله.. وهنا نُعيد إلى الأذهان مقولة جورج شولتز وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، والتي رسم فيها سيناريو دقيقا لما ستؤول إليه الأوضاع بالمنطقة -وهو ما أكَّدتْ عليه كونداليزا رايس لاحقا من خلال تسويقها لمفهوم الشرق الأوسط الجديد- فيقول شولتز: "إن منطقة الشرق الأوسط ستشهد زلازلًا وتحولات ستكون بديلا للأفكار البالية التي حكمت المنطقة عقودا أو قرونا".. فهو بذلك كان يُعلن عن تغلغل "الفوضى الخلاقة" في مفاصل المنطقة؛ تحقيقا للسياسات الأمريكية التي تقوم على إستراتيجيات بعيدة المدى.

ومن هُنا، أرى أنَّ هذا الربيع كان بمثابة حلقة في سلسلة تغيُّرات لاحقة للوصول إلى الهدف النهائي المتمثل في مشروع الشرق الأوسط الجديد، والذي يُمكن لإسرائيل تحويل الدول حولها إلى كيانات مُتناحرة لا حول لها ولا قوة على مواجهة الاحتلال.

فقد استغلَّت القوى المتربصة بنا واقعا كان يمور بطاقة ثورية كامنة في نفوس الجماهير؛ لإحداث التغيير لتتسنَّم السلطة قيادات لم ترق إلى مستوى الطموح، وانخرطت النخب في تسويق برامج ضبابية اتَّسمت بالكثير من ضيق الأفق، والافتقار إلى البُعد السياسي، في ظلِّ ما كان ينوء به كاهلها من تركات ثقيلة من أنظمة الاستبداد في النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وقد تمخَّضت ثورات الربيع لتلد في النهاية فشلا ذريعا.. ويبدو أنه -وبعد أن آلت معظم الانتفاضات الموسومة بـ"الربيع العربي" إلى نهايات تراجيدية- ها نحن نستشرف عاما جديدا، وفصلاً داميًّا آخر يمكن الاصطلاح عليه بـ"الخريف العربي".. قد يختلفان في المقدِّمات، لكنهما يلتقيان بلاشك في النهايات الفوضوية المصاغة بحرفية، وفي حبكة مؤامراتية مدروسة لإضعاف المنطقة، والإجهاز على ما تبقَّى منها، فإنْ كان "الربيع" استهدف الدول العربية المركزية الكبري -مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا- فإنَّ "الخريف" القادم يستهدف اقتصادًا وبُنى أساسية، لإنهاك الناجين من "ربيع الموت" بما يحقق نبوءة الشرق الأوسط الجديد؛ ويصب في النهاية بمصلحة الاحتلال الإسرائيلي بكل تأكيد.

نعم.. هذا الوضع اليائس مهَّد السبيل -وبامتياز- لتطبيق المرحلة التالية من الربيع، وهي "الخريف العربي"، وأولى نذر هذا الخريف ما حملته رياحه من كوارث اقتصادية، تمثَّلت مُقدمتها في انهيار أسعار النفط، والتي تستهدف دول الخليج، القلب المالي النابض للعرب.

إنَّ مُحرِّكي الأحداث من اللاعبين الكبار على الساحة الدولية يُدركون أنه ورغم ما تتمتع به الدول الخليجية المنتجة للنفط من استقرار ورغد عيش، إلا أنَّ كل ذلك يمكن زعرعته بانهيار أسعار النفط؛ فكان أن حدث ذلك بقرار ظاهره اقتصادي، إلا أنَّه في صميمه سياسي محض.. ومن المؤسف أنَّ بعضَ الدول المنتجة للنفط تنساق وراء حرب الأسعار المدمِّرة دون أن تدرك أنها ستكون ضمن قائمة الضحايا لهذه الحرب غير المنصفة.

... إنَّ المتأمل للموازنات الخليجية للعامين الحالي والجديد، ليُدرك الحجم الحقيقي للكارثة؛ حيث تقدَّر خسائر دول الخليج جراء انخفاض أسعار النفط بنحو 300 مليار دولار للعام 2015 فقط؛ الأمر الذي يُؤذن بتحوُّل هذه الدول من تَرَف الدول المنتجة للنفط، إلى اقتصادات تعاني من عُجوزات مالية ضخمة، تصل في بعضها إلى حدِّ الاستدانة من البنوك الخارجية، وهو نذير بأنَّه حال استمرَّت الأوضاع على ما هي عليه دون معالجات حقيقية، فإن تدهورا اقتصاديا مروعا لن يستثني أيًّا من دول المنطقة.

وانطلاقا من القناعة اليقينية بأنَّ حبائل السياسة الدولية لا تخلو من "نظرية المؤامرة"؛ لذا فعلينا أن نؤمن بأنَّ الدول الكبرى تعمل ضمن إستراتيجيات لتعزيز مكانتها ومناطق نفوذها في العالم، وإن كان "الربيع العربي" وقع في شِباك "سايكس بيكو" جديدة، فإنَّ ما يحدث اليوم من كوارث اقتصادية تستهدف الدول المنتجة للنفط هو "خريف عربي" يُشكل حلقة جديدة من مسلسل استهداف عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج.

والأسوأ من ذلك أنَّ الأمر لن يقف عند حدِّ الاستنزاف الاقتصادي، وإيصال دول المنطقة -خاصة الخليجية منها- إلى شفير هاوية الإفلاس، بل سيمتد إلى أبعد من ذلك بمحاولة الزج بها في صراعات وحروب بالوكالة لتصفية حسابات بين القوى الكبرى المتصارعة على النفوذ والسلطة.

وهنا تتبدَّى إشارة أخرى من علامات "الخريف" القادم بقوة -والتي باتت تلبِّد سماء المنطقة- والمتمثلة في عودة أجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا على مسرح العالم العربي، والتي تدق طبول الحرب بالوكالة في المنطقة؛ لإشغال دولها في حروب لاستنزاف مواردها وتوريطها في صفقات أسلحة توجَّه أساسا إلى صدور "الأخوة الأعداء".

ونخلص إلى القول بأنَّ التمادي في المسار الحالي، سيقود دول المنطقة لا محالة إلى السقوط في الفخ المرسوم بدقة، ومن هنا يتوجب اليقظة لتصحيح المسار قبل فوات الأوان.