حكمة وحكومة

فؤاد أبو حجلة

من بين عشرات الرسائل الإلكترونية التي وصلتني الأسبوع الماضي، لفتت انتباهي رسالتان، واحدة منهما تحمل قولا صادقا وموجعا لحكيم مجهول، والثانية تشير إلى سذاجة وسطحية تصل حد الغباء في أوراق رسمية صادرة عن حكومة معلومة.

أوردت الرسالة الأولى القصة التالية:

"سئل حكيم: ما أكثر ما يدهشك في الكون؟ فأجاب: الإنسان، لأنه يضحي بصحته من أجل المال.. ثم يضحي بالمال من أجل استعادة صحته، وهو قلق جدا على مستقبله لدرجة أنه لا يستمتع بحاضره، فيعيش وكأنه لن يموت أبدا، ولكنه يموت وكأنه لم يعش أبدا"!

أعجبني تحليل الحكيم المجهول، وتشخيصه الدقيق للطبع البشري الذي يغلب التطبع، ولا يستطيع مقاومة التطبيع حين يكون مع إسرائيل.

وهناك أكثر من نموذج حي لهذا الكائن الذي يسميه الحكيم المجهول إنسانا، ولعلني أعرف بعضا من هؤلاء المجتهدين في جمع المال والأمراض العضوية والنفسية التي تحولهم إلى ماكينات بشرية شبيهة بماكينات البنوك المعطلة التي تقبل عمليات الإيداع وترفض عمليات الصرف، لكنهم يضطرون في النهاية إلى البحث عن صفقات لمبادلة العافية بالرصيد.. ويظلون مرضى حتى يجيء أجلهم، ويموتون في الظل وكأنهم لم يعيشوا ولم يتفاعلوا مع الحياة بحلوها ومرها. ومهما كانت الأسماء واضحة على حجارة قبورهم، يظلون مجهولين في الممات مثلما كانوا مجهولين في الحياة.

الرسالة الثانية كانت أكثر طرافة فقد تضمنت أسئلة غبية في طلب تأشيرة الدخول إلى دولة عظمى.

ومن هذه الأسئلة مثلا: هل أنت عضو في منظمة إرهابية؟ وهل تعرف عضوا في منظمة إرهابية؟ وهل تنوي القيام بعمل إرهابي (في الدولة المانحة للتأشيرة)؟

الحكومة التي وضعت هذه الأسئلة الذكية هي حكومة الولايات المتحدة، وهي التي كانت طلبات الحصول على تأشيراتها تتطلب أسئلة ذكية أخرى في العام ألفين، ومنها: هل لك علاقة بالنازية؟ وهل أنت عضو في حزب نازي؟

طبعا هناك المئات إن لم يكن الآلاف من الإرهابيين والداعمين للإرهاب يعيشون في الولايات المتحدة وفي العواصم الغربية، وكلهم أجابوا عن الأسئلة الواردة في طلبات التأشيرة، وهذا باعتراف الحكومات الغربية وليس تجنيا وادعاء عليها، أو افتراضا قائما على سوء الظن بهذه الحكومات لا سمح الله.

لماذا ترد هذه الأسئلة الذكية في طلبات التأشيرات الرسمية؟

لا أظنُّ أنَّ الأمريكيين على هذا النحو من السذاجة بحيث يصدقون الإجابة بكلمة "لا" على جميع الأسئلة الشبيهة والمشبوهة في هذه الطلبات. ولكنني أفترض أنَّ هناك قوانين للشفافية تفرض وضع هذه الأسئلة، بينما تمرُّ غربلة الطلبات في مراحل فحص دقيقة ومعقدة قبل منح التأشيرة أو رفضها. ولا بد أن هناك اعتبارات أمنية واستخبارية وراء منح التأشيرات لمتطرفين منهم من يحرض على العداء لأمريكا وحجبها عن أشخاص طبيعيين يرغبون في الدخول إلى الولايات المتحدة والبحث فيها عن فرص عمل توفر لهم الحد الأدنى من العيش بكرامة لا يجدونها في بلادهم.

وفي المقابل، يدخل الأمريكي إلى معظم البلاد العربية، إن لم يكن كلها، بلا تأشيرة ولا ما يحزنون، ويمر عبر المنافذ الحدودية بلا سؤال عن سبب الزيارة. وهو بالطبع، لا يضطر لتعبئة طلب تأشيرة يتضمن أسئلة ذكية من نوع: هل أنت صهيوني؟ أو هل تعرف صهيونيا أو تؤيد الإرهاب الاسرائيلي ضد الفلسطينيين والعرب؟ ويمكن أن يضاف إلى طلب التأشيرة سؤال ذكي مهم له علاقة بالنوايا، وهو: هل تنوي التجسس علينا لصالح إسرائيل؟ وإذا كنت تنوي ذلك، هل تعرف عملاء محليين يسهلون مهمتك؟

العالم يدخل في حالة من الجنون لا يمكن فهم مسبباتها، لكنها في الأغلب تعود إلى سعي المجتمع الدولي لتغيير نظام تعاقب الفصول لكي تصير الدنيا كلها ربيعا منسوخا من "الربيع العربي" الذي يزهر في إسرائيل.

تعليق عبر الفيس بوك