في رحاب السيرة النبوية العطرة

عيسى الرواحي

تحتفل الأمة الإسلامية هذه الأيام بذكرى مولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ والذي كان مولده إيذانا ببزوغ فجر جديد على هذه البسيطة، وإيذانا أن يكون مبعثه بعد أربعين عاما من مولده رحمة للعالمين، لينقذ الناس من ضلالات الشرك والأوثان إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) سورة التوبة: 128.

وإذا كانت بعض المناسبات الإسلامية كذكرى الهجرة النبوية أو ذكرى حادثة الإسراء والمعراج تمثل أحداثا عظيمة تخص المسلمين وتأريخهم المجيد، فإنّ ذكرى المولد النبوي الشريف ليست ذكرى خالدة تخص المسلمين فحسب، ولا مبعث فخر لهم فقط، بل لكل إنسان يحمل في قلبه سمات الإنسانية السوية والفطرة السليمة، فمحمد صلى الله عليه وسلم مبعث الفخر لكل البشر؛ فهو أفضل مخلوق في السماوات والأراضين، وهو يمثل الإنسانية في أسمى معانيها، والبشرية في أنقى صفاتها، والرحمة في أرقى مراتبها، وأكثر من ذلك يمكننا القول إنّ مولده صلى الله عليه وسلم فخر وذكرى لكل الكائنات وكل من على ظهر هذا الوجود، إذ لم يبعثه الله رحمة للإنس فحسب، وإنما رحمة للعالمين يقول الله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) سورة اﻷنبياء :107.

ولا ريب أنّ الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف نابع من حبنا لهذا النبي العظيم والسراج المنير، ومعلوم أن حبه -صلى الله عليه وسلم- من لوازم الإيمان، فلا يتحقق إيمان المرء ما لم تكن شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- أحب شيء بعد الله تعالى إلى قلب كل مسلم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).

وهذا الحب لابد أن يتمثله المرء قولا وعملا وصدقا وحقا، وليس مجرد شعارات ترفع أو كلمات تقال، وإنما الحب الحقيقي لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم التي يتحقق بها إيمان المرء تتمثل في اقتفاء سيرته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وعلى رأسها امتثال الأخلاق السامية التي جسدها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعثته وبعدها، والتي بها نال أعظم وصف في أعظم كتاب؛ حيث يقول الله تعالى واصفا النبي العظيم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم: 4. بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق التي امتثلها من قبله الأنبياء والمرسلون، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

وبما أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث ليتمم مكارم الأخلاق، فهذا يعني أنّ كل عمل قبيح، وخلق ذميم، وصفة رذيلة لا تمت إلى الإسلام بصلة قطعا ما دامت منافية لهدي القرآن وخلق صاحب الخلق العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، وكل متلبس لمساوئ الأخلاق مرتكب لها، فإنّ حبه للرسول صلى الله عليه وسلم مجرد زعم كاذب وادعاء باطل، ولا ريب أنّ ارتكابه لها تبعده عن الإيمان بالله ورسوله، وتحرمه صفة التقوى الجامعة للأخلاق والفضائل والتي بها منوط قبول الأعمال يقول الله تعالى: (... إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) سورة المائدة: 27

ولعله لا خلاف لدينا في أنّ الأمة الإسلاميّة اليوم تعيش أسوأ حالاتها، وأصعب أوضاعها، وما كان يحدث لها لذلك لو أنّها اتبعت الهدى القويم والصراط المستقيم الذي جاء به الوحي الإلهي الظاهر المتمثل في القرآن الكريم، والباطن المتمثل في الهدي النبوي، فالأمّة الإسلاميّة في عمومها تعيش نكبات ومصائب مهلكات وأزمات إنسانية وأخلاقية تمزقت على إثرها حبالها، وتنكأت أوصالها، وذهبت ريحها، فاقتتلت فيما بينها وتناحرت، وسُفكت دماء المسلمين بأيدي المسلمين، وانتهكت أعراض المسلمين بأيدي المسلمين، ونهبت أموال المسلمين بأيدي المسلمين، فأين هؤلاء السافكون الدماء، المنتهكون الأعراض، الناهبون الأموال، الزاعمون انتسابهم لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم من هذا التوجيه النبوي لهم :( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)؟!

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك