كوجاك "الشجاع"

المعتصم البوسعيدي

عندما أعطى العالم الإلماني ماكس فيبر -أحد مؤسسي علم الاجتماع وعالم الاقتصاد والسياسةـ الصبغة السياسية للشخص الذي يكون له تأثير على الآخرين بوصفه هذا الشخص بمركز القوة نظير القدرات التي يتمتع بها، فإن وصفه كان دقيقًا لأبعد الحدود، ولا شك أن الشخصية التي سأتحدث عنها تقع ضمن نطاق هذا التعريف؛ "للكاريزما" الـمُلهمة التي يتمتع بها وللصورةِ الذهنية المتكونة عنه حتى من خلالِ مظهره العام.

ما يُمارسه بطل شخصيتنا ليس للضعفاء، وكيف يكون ضعيفًا وهو قاضٍ وصاحب قرار يجب أن يتخذه في ثوان بسيطة من وقوع الحدث على أرضية طولها (110-120ياردة) وعرضها (70-80 ياردة) بصافرة وبطاقات صفراء وحمراء يُديرُ بها 22 لاعبا، وبطل قصتنا شخصية وصفت "بالمجنون الرائع"؛ حيث يُدهش منظره "الفضائي" كل من يشاهده مع تماهي المظهر بالجوهر، واشتهر -أيضًا- باسم "كوجاك" لصلعته البراقة، على أن شكله أصبح عامل جذب للترويج والإعلان.. إنه باختصار الحكم الإيطالي الشهير "بيلوجي كولينا".

كولينا ابن المعلمة لوسيانا ورجل الحكومة إيليا كولينا والمولود في الثالث عشر من فبراير من العام 1960 في مدينة المثقفين بشمال إيطاليا "بولونيا" لم يكن لاعبًا مشهورًا، فقد لعبَ قلب دفاع خشن وكثير البطاقات الحمراء لنادٍ صغير بمدينته، وعُرف عنه سرعة البديهة وقوة اتخاذ القرار لذلك نصحه الأصدقاء والمقربون منه بالتوجه للتحكيم خاصة زميله فاستو كابوانو؛ فكان أن إلتحق بدورة للحكام عام 1977 قادته نحو التألق والنجومية، إنها محطة أولى مهمة تمثل أهمية إستقراء المواهب واكتشافها؛ لوضعها في المسار الصحيح الذي صنع نجوم الرياضة من أمثال كولينا.

لم يكن كولينا متجهًا للتحكيم ليتناسى تحصيله الدراسي والمعرفي فقد أكمل دراسته الجامعية وحصل على شهادة الماجستير بالاقتصاد عام 1984 وتوظف حتى أصبح مستشارًا اقتصاديا، كما تدرج في تحيكم المباريات من دوري الناشئين للشباب، ثم حكم بالدرجة الرابعة وأصبح حينها حكمًا مُعتمدًا في الاتحاد الإيطالي، وواصل الرحلة مع دوري الدرجة الثانية والأولى، واحتك بأشهر حكام إيطاليا آنذاك من أمثال: اسارين، لانيس، وبايريتو، حتى كان يوم 15 ديسمبر 1991 حين حكم أول مباراة له بدوري الأضواء بين فيرونا واسكولي، موسم أول حقق فيه رقما قياسيا بإدارته لثماني مباريات، وبعد قيادته لـ43 مباراة في السيريا (A) اعتمده "الفيفا" ضمن حكامه، قبل أن يحصل على الشارة الدولية عام 1995، ولعلَّ هذه المرحلة تُعطينا القيمة المضافة للعلمِ والمعرفة في صناعةِ نجومية الأبطال، مع الصبر وعدم الاستعجال بمحاولة قفز حواجز من المهم المرور منها لا تفاديها بطريقة أو بأخرى.

محطة كولينا التالية إنجازاته المتعددة التي وضعته على قمة هرم تاريخ التحكيم العالمي، فقد أختير أفضل حكم في العالم لعدة مرات، وقاد نهائي دورة الألعاب الأولمبية عام 1996، والنهائي المجنون بين بايرن ميونخ ومانشستر يونايتد في دوري الأبطال 1999 وكان مرشحًا لتحكيم نهائي أمم أوروبا 2000 لولا تأهل الطليان للنهائي، لكنه كان صاحب صافرة نهائي كأس العالم 2002 بكوريا الجنوبية واليابان خلفًا لحكمنا الرائع سعيد بلقولة -رحمه الله- حكم مونديال فرنسا 1998، لقد كانت مباراة البرتغال وسلوفاكيا في تصفيات كأس العام 2006 آخر مباراة على الصعيد الدولي لكولينا، فيما سمح له الاتحاد الإيطالي بالتحكيم حتى بعد تخطيه السن القانوني للحكام، إلا أن ظهور مشكلة عقده الدعائي مع الشركة التي كانت ترعى في نفس الوقت نادي ميلان جعلت من الإتحاد الإيطالي يطلب منه فسخ عقده، أو التحكيم في الدرجة الثانية، لكنه رفض كلا الخيارين وفضَّل الاعتزال، وتقلد بعد اعتزاله عدة مناصب أبرزها رئيس حكام الاتحاد الأوروبي لكرة القدم.

يبقى علينا تسليط الضوء على سر تسميته بـ"الشجاع"؟! بل ليس سرًّا فالإجابة تكمنُ في الإخلاص والتفاني والتضحيات، ويكفي تلخيص الأمر بموقفين من حياته المهنية كحكم، الأول عندما حكم إحدى مباريات الدوري الإيطالي وهو مريض بالحمى ومُنح جائزة على ذلك، والآخر عندما اختار تحكيم لقاء كالياري وبادوفا في العام 1995 عوض بقاءه مع زوجته التي كانت تنجب في نفس التوقيت ابنته الثانية "كارولينا" احترامًا منه لمهنته، مهنته التي يقع معيار الأفضل فيها بمقولة "أفضل الحكام أقلهم أخطاءً" وسيظل الخطأ يحدث؛ لبشرية الحكام وفطرة النقص لا الكمال، وعلينا تفهم ذلك حتى لا نلقي إخفاقاتنا على شماعة التحكيم، وحتى ندرك جيدًا معنى كونك حكمًا في عالم المستديرة.

تعليق عبر الفيس بوك