زوبعة يوسف زيدان

زاهر المحروقي

منذ قيامه، لجأ الكيان الصهيوني إلى ما عُرف بـ "فرض الأمر الواقع" على مراحل؛ وهي خطة طويلة الأجل لتغيير الواقع مع إنكار التاريخ، فلجأ إلى تشريد الفلسطينيين وعدم الاكتراث بحق عودتهم إلى ديارهم، لأنّ الجيل المشرّد سينقرض، ورويداً رويداً سينسى الجيل الجديد المطالبة بحق العودة إلى دياره، (وهو سلاح لم ينجح حتى الآن، ولكنه مع المتغيرات الحاصلة في الوطن العربي قد ينجح مستقبلاً، خاصة بعد أن تخلى الأشقاء عن القضية الفلسطينية، وبقي أطفال فلسطين يحاربون بالحجارة والسكاكين)، كما أنّ الكيان الصهيوني لجأ أيضاً إلى تهويد مدينة القدس عبر مراحل، تمهيداً لهدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان المزعوم مكانه، وذلك باستخدام القوة العسكرية تارة وبمحو كلِّ الآثار الإسلامية والمسيحية معاً، لأنّ الآثار هي خير ناطق وشاهد على أيِّ حقبة تاريخية.

وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، انبرى الكثير من الصهاينة لتغيير معالم القدس، وإنكار قدسية المسجد الأقصى لدى المسلمين، فظهرت عدة دراسات إسرائيلية تشير إلى أنّ المسجد الأقصى لم يُبْنَ إلا في عهد عبد الملك بن مروان عام 72 هجرية، وادعت "رابطة الدفاع اليهودية" أنّ مسجد بيت المقدس ليس هو المقصود بالمسجد الأقصى المذكور في الآية الأولى من سورة "الإسراء"، بحجة أنه لم يكن مبنياً عندما نزلت السورة؛ ومثلُ هذا الكلام تم ترديده كثيراً وبصيغ وعبارات مختلفة ولكنها كلها تصب في الخانة نفسها، وكلُّ من تجرأ وخالف هذا الرأي كانت إسرائيل تتربص به، وهناك مفكرون يهود أنكروا ادعاء وجود هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى، منهم عالم الآثار الإسرائيلي "إسرائيل فلنكشتاين"، وكذلك البروفيسور شلومو ساند أستاذ التاريخ بجامعة تل أبيب الذي أصدر كتابين هامين بعنوان "متى وكيف تم اختراع أرض إسرائيل؟" و "متى وكيف تم اختراع الشعب اليهودي؟"، أنكر فيهما تماماً المزاعم الصهيونية حول أحقية اليهود بأرض فلسطين، مستعرضاً بحوث كبار الآثاريين اليهود وغيرهم، والذين توصلوا نتيجةَ بحوثٍ آثارية معمقة على مدى عشرات السنين أنه لا يوجد في القدس ولا في فلسطين أية دلائل تدل على وجود "هيكل سليمان".

عندما يقدم الصهاينة أكاذيب حول عدم قدسية المسجد الأقصى بالنسبة للمسليمن، وكذلك حول التاريخ الإسلامي فهذا أمرٌ طبيعيٌّ؛ ولكن غير الطبيعي أن يقدم مفكرون أو باحثون عرب صكوك براءة للمشروع الصهيوني، بترديد كلِّ ما تقوله إسرائيل أو تود سماعه، وهذا ما فعله يوسف زيدان عندما أطلق تصريحات أثارت زوبعة كبيرة في مصر وخارجها حول المسجد الأقصى، حيث قال خلال لقائه ببرنامج "ممكن" على فضائية "CBC"، الخميس 3/12/2015: "إنّ المسجد الموجود في مدينة القدس المحتلة ليس هو المسجد الأقصى ذا القدسية الدينية والذي أُسرِيَ بالرسول إليه، وأنّ المسجد الأقصى الحقيقي الذي ذُكر في القرآن يوجد على طريق "الطائف"، فالمسجد المتواجد في فلسطين لم يكن موجوداً من الأساس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنّ من بناه هو عبد الملك بن مروان في العصر الأموي"!، ويرى زيدان أنّ الصراع على المسجد الأقصى ليس دينياً وإنما هو سياسيّ.

ليس هذا فحسب، ولكن يوسف زيدان أنكر أيضا قصة المعراج مكتفياً بالإسراء إلى المسجد الأقصى في "الطائف". وقضيةُ المعراج سبق وأن خاض فيها الكثيرون، وهناك آراء متباينة حولها ولستُ مؤهلاً لتناولها، ولكن فيما يخص مكان المسجد الأقصى فقد انبرى الكثيرون يفنِّدون كلام يوسف زيدان؛ والسؤال المطروح ليوسف زيدان هو: أين المسجد الأقصى الذي قصده في حديثه في الطائف؟، أو أين آثاره؟ وكيف تكون معجزة الله أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة حتى مدينة الطائف فقط، وهي التي كان باستطاعته أن يذهب إليها ويعود من غير أيِّ معجزة- وقد فعلها فعلاً قبل حادثة الإسراء، وهي موثقة تاريخياً-، فلم يكن هناك مسجدٌ أساساً في الطائف، ثم إنّ ما قاله زيدان عن عدم قدسية المسجد الأقصى، هو مخالف للواقع، إذ جاء في سورة الإسراء: {المَسْجِد الأقْصَى الذي بَارَكنَا حَوْلَه" تدلُّ على قدسية المسجد المشار إليه، وكلُّ الأحاديث النبوية الشريفة تدلُّ على أنّ المسجد الأقصى هو الذي في القدس؛ فقد رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لما كذبتني قريش قمتُ في الحجر، فجلا الله لي بيت المقدس فطفقتُ أخبرهم عن آياته (معالمه) وأنا أنظر إليه"، وكلّ ذلك يدلُّ على المسجد الأقصى في القدس وليس في الطائف، إذ سبق للرسول صلى الله عليه وسلم أن زار الطائف، وأهلُ مكة كانوا أدرى الناس بها وكانوا يتاجرون مع الشام كثيراً، فلم يأتِ أحدٌ من الأقدمين على ذكر الطائف أبداً، وكلام زيدان بالتأكيد جاء من باب الاجتهاد، حيث اجتهد الرجل وأخطأ، واجتهاده قابل للأخذ والرد، ولكن في المحصلة النهائية فإنّ كلاماً كهذا يخدم الصهيونية؛ وهو كلامٌ تشتغل عليه إسرائيل لسنوات، فإذا به يأتيها مجاناً.

وعندما يعيد عبد الملك بن مروان بناء المسجد الأقصى فليس معنى هذا أنه هو أول من بناه، وليس معنى هذا أنّ ذلك البناء يلغي التاريخ السابق للمسجد، وإلا فإنّ الحرمين المكيّ والمدنيّ تم إعادة بنائهما كثيراً؛ فهل يعني ذلك أنّ من وسّع الحرم هو الذي بناه؟!.

لقد أصبح د.يوسف زيدان مثيراً للجدل، وبما أنه باحث في التاريخ وكان رئيساً لقسم المخطوطات في مكتبة الإسكندرية، فليس معنى هذا أن يقول بغير علم، مثلما حدث أن قال في إحدى المرات وهو يتحدث عن جماعات العنف الإسلامي ويحمل الخوارج مسؤولية ذلك: "إنّ الخوارج باختصار، هم البوسعيديون الذين يحكمون عُمان الآن"، فلزيدان الحقّ أن يقول ما يؤمن به، ولكن من حقنا أيضاً أن نرد عليه إن رأينا أنّ رأيه ما هو إلا تمادٍ في إنكار التاريخ، إذ سبق له أن ذكر أنّ "إسرائيل لم ترتكب مجزرة صبرا وشاتيلا، فحزبُ الكتائب اللبنانية هو من ارتكب تلك المجزرة"، وكانت حجته أنّ "اليهود نظَّموا مظاهرات مليونية في كلِّ البلاد لإدانة ما ارتكبته بلادهم من مساعدة حزب الكتائب والسماح له بتنفيذ المجزرة"، وكأنّ المظاهرات التي نُظمت في أوروبا وأمريكا ضد غزو العراق تنفي عن أمريكا ذلك الغزو، وكأنّ إسرائيل لم ترتكب المجازر تلو المجازر منذ إنشائها حتى الآن، ثم إنّ زيدان أوضح أنّ "بيننا خلافات مع إسرائيل، لكن لا بد أن ننهي الموت المجاني في هذه المعارك، ونبطَّل نعوِّق المجتمعات، كفاية كده، مش هنفضل نحارب بعض على أوهام"، وهي عبارة يقصد بها -كما بدا لي-، أنّ التمسك بقدسية المسجد الأقصى، من الأوهام، وكأنّ العرب هم من يذبح الإسرائيليين ليل نهار، وكأنّ الفلسطينيين هم من أتوا من بقاع الأرض المختلفة ليطردوا الإسرائيليين من أرضهم؛ وهو تبسيط ليس له معنى وليس له ما يبرره، وكان الأوْلَى أن يوجِّه نصائحه لإسرائيل وليس للعرب، وهذا الموقف جعل الروائي إبراهيم نصر الله يقول في جريدة القدس العربي إنه من حسن الحظ أنّ زيدان لم يكن (كاهان) قاضي لجنة التحقيق الإسرائيلي في مذبحة صبرا وشاتيلا، التي شكلّتها إسرائيل نفسها، وإلا لكان شارون ومناحيم بيغن وإسحاق شامير ورفائيل إيتان، قد خرجوا أبرياء من دم الفلسطينيين الذي أريق في تلك المذبحة، وتقريرُ القاضي كاهان حمّل شارون وهؤلاء، مسؤولية المذبحة.

إنّ تصريحات يوسف زيدان حول قدسية المسجد الأقصى لا تخدم إلا المشروع الصهيوني بطمس هوية المسجد، حتى إذا تم هدم المسجد لا يحدث تأجيج لمشاعر المسلمين حول العالم، ويجب ألا يتم توظيف هذه التصريحات لدعم الحقوق الإسرائيلية المزعومة في القدس أو في فلسطين كلها؛ فالمزاعم الإسرائيلية لا تقتصر على القدس أو فلسطين فحسب، ومما يؤسف له أنّ كلَّ النقاط التي أثارها زيدان تخدم المخطط الصهيوني، وجاءت في وقت ترتكب فيه إسرائيل الانتهاكات ضد الفلسطينيين والمسجد الأقصى نفسه، في ظل غياب القضية الفلسطينية عن الاهتمام العربي والإسلامي، لأنّ بعض قادة الأمة لا يهمهم المسجد الأقصى، فهم مشغولون باليمن وبسوريا، بعد أن شتتوا الأمة.

تعليق عبر الفيس بوك