إصلاح التعليم.. صلاحٌ لنا

علي المعشني

عندما قرَّرتْ الحكومة الألمانية حالة التقشف في العام المنصرم للسيطرة على إنفاقها، رفضتْ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن يشمل هذا التقشف قطاع التعليم؛ لأنَّ "التعليم هو أنا وأنت" كما قالت في البرلمان؛ أي أنَّه الوزير ورئيس الحكومة والطبيب والمهندس في مستقبل كل بلد، وإن فساد التعليم وهشاشته يعني انهيار منظومة الدولة والمجتمع معًا.

وحذَّر خبير تربوي كوري جنوبي ما أسماه ببلدان الشرق الأوسط من فشل التعليم لديهم؛ وبالتالي تولِّي أجيال فاشلة زمام بلدانهم ومصائرها وخطورة تلاشيها وزوالها من الوجود تدريجيًّا.

الزعيم السنغافوري لي كوان يقول: كانت بلدي سنغافورة غارقة في الفساد المالي والأخلاقي والفقر في ستينيات القرن الماضي، وحين قرَّرت النهوض به لم أجد سوى المعلم والتعليم ركيزة للنهوض والقضاء على جميع تلك الظواهر السلبية تدريجيًا. حيث التقى لي كوان بالمعلمين في بلده ووعدهم بتحسين أوضاعهم العملية والمعيشية، وقال لهم عبارته الشهيرة: سأبني الوطن وأترك لكم مسؤولية بناء الإنسان في الوطن.

ما دفعني لكتابة مقالي هذا ليس الصخب والضجيج المثار حول أهمية التعليم وضرورة النهوض به وتقويمه في سلطنتنا الحبيبة، والذي سبق وأن تطرقت إليه في مقالات سابقة وشاركني همه العديد من الزملاء الكتاب وأصبح حديث المجالس، بل خبر تعيين الدكتور أحمد محمد العيسى وزيرًا للتربية والتعليم في المملكة العربية السعودية الشقيقة كمثال شخصي لي على جدية إصلاح التعليم.

فالدكتور أحمد العيسى ألَّف كتابًا عام 2009م بعنوان "إصلاح التعليم في السعودية بين غياب الرؤية السياسية وتوجس الثقافة الدينية وعجز الإدارة التربوية". وكان الكتاب بمثابة خارطة طريق من رجل تربوي وأكاديمي وعامل في الحقل لإصلاح هذا القطاع الحيوي والهام في بلده السعودية. فكان مصير الكتاب الحظر من دخول السعودية حينها، وقد تناوله الأديب السعودي والوزير غازي القصيبي في مقال أشبه بالمرثية ولفت النظر لأهميته تحت عنوان ساخر هو "امنعوا هذا الكتاب الخطر!"؛ حيث اعتبر القصيبي الكتاب المذكور أهم كتاب صدر في الشأن العام السعودي خلال العقدين الأخيرين.

واستعرض فصوله وصفحاته للقارئ ورجل القرار ولخصها في الأسطر التالية:

"ولو استعرضنا المشاكل الكبرى التي يعاني منها المجتمع السعودي اليوم، الفقر والبطالة وضعف الإنتاجية وترهل الأداء في القطاعين العام والخاص، لوجدناها تنبع مباشرة من النظام التعليمي، ويستحيل حلها دون إصلاحات حقيقية في هذا القطاع".

ثم يقول القصيبي في استعراضه للكتاب: "على أن قضية التعليم بالإضافة إلى خطرها البالغ، بالغة الحساسية، يصعب إن لم يستحل فصل النظام التعليمي عن البيئة التي يولد ويتنفس فيها: من العسير تصور نظام تعليمي يطور المهارات الصناعية في مجتمع زراعي بدائي، ومن المستحيل أن يستطيع مجتمع تملأ عقوله الخرافات إبداع نظام تعليمي معاصر يشجع العلم وينبذ الخرافة، هذا الارتباط الوثيق بين النظام التعليمي وبعض القيم السائدة في المجتمع هو الذي يخلق في كثير من الأذهان الإنطباع أن أي محاولة لتغيير نظام التعليم هي عدوان على ثوابت المجتمع، وهذا الارتباط هو الذي يشكل الفارق الهائل بين إعادة هيكلة قطاع الكهرباء أو النقل أو الصحة وإعادة هيكلة التعليم".

ويعزو القصيبي سبب فشل كل جهود وخطط إصلاح التعليم في السعودية فيما مضى من الوقت إلى ما ورد في عنوان الكتاب أعلاه، وهو غياب الرؤية السياسية وتوجس الثقافة الدينية وعجز الإدارة التربوية. (انتهى)

الجديد بالنسبة لي في كل هذا، هو تعيين رجل ذي رؤية ورسالة وخبرة ميدانية وكفاءة علمية على قطاع مهم كالتعليم في دولة عربية، وهي سابقة في دولة الاستقلال العربي ستجعل الجميع -كما يُفترض- مراقبين عن كثب لجميع تفاصيلها وأثرها وتداعياتها فكلنا في الهم شرق.

فقد رأينا وسمعنا عن تجربة الاستعانة بالتكنوقراط في الوطن العربي والذين أضافوا إلى قطاعاتهم وهنًا على وهن في الغالب الأعم؛ لأنهم صُدموا بأن ما هو مطلوب منهم هو العمل في إطار منظومة بالية متهالكة لا يضيفون عليها أو يبدلون منها، إضافة إلى عدم وجود وزارات عميقة في الوطن العربي تشفع للوزير التكنوقراط الالتفات نحو التطوير والمهمة المطلوبة منه دون الإنشغال في الجوانب الإدارية والمالية والإجرائية اليومية لوزارته والتي تستنزف منه جل وقته وجهده وبلا طائل.

فنجاح تجربة التكنوقراط في الغرب وغيره من البلاد مردُّه بالدرجة الأولى إلى وجود الوزارة العميقة والتي تسير إداريًّا وماليًّا وفق نظام وهيكلية متعارف عليهما ولا يحتاجان لتدخل الوزير أو انشغاله بهما.

كما أنَّ حالة تعيين وتكليف وزاري كحالة الدكتور أحمد العيسى في السعودية حالة شائعة في الغرب؛ حيث كلف العديد من الأكاديميين بتنفيذ مؤلفاتهم ونظرياتهم العلمية والأكاديمية على الأرض وسُخرت لهم كل السبل لإنجاحها، وهذا ما رأيناه في تعيين الأكاديمي بريجنسكي مستشارًا للأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس جيمي كارتر، لمؤلفاته السياسية ونظرياته في كيفية محاصرة المد السوفيتي وانهيار نموذجه بالحروب الدينية (كالجهاد الأفغاني) وزعزعة كياناته المحيطة به كبولندا.

وكذلك الحال كانت مع تعيين الأكاديمية الأمريكية كونداليزا رايس مستشارة للأمن القومي ووزيرة للخارجية؛ تطبيقًا لنظرياتها تجاه الخصم السوفيتي والفوضى الخلاقة في الوطن العربي.

لا شكَّ أننا في الوطن العربي بحاجة ماسة اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى رجال دولة ومسؤولين ذوي رسالة ورؤية تجاه قطاعات اختصاصاتهم ومسؤولياتهم وتسخير الطاقات والموارد لهم إذا أردنا بعث الحياة والتماس التطور واللحاق بالركب، وبحاجة أكبر إلى فهم التضاد والفصام في نفوسنا كأفراد ومجتمعات في رغبة التطور وولوج المستقبل بأدوات الماضي، من أنماط تفكير وأسباب قوة.

فصون الماضي لا يعني اجتراره ولا التسلح بقضه وقضيضه ولا الانسلاخ منه جملة وتفصيلًا، بل على قاعدة لا إفراط ولا تفريط.

ما نراه من مظاهر ونتائج التعليم والمتعلمين اليوم في وطننا العربي الكبير هو أننا أقمنا المظاهر وهجرنا المقاصد وتجاهلناها، وهجرنا التربية والفهم، واهتممنا بالتعليم الهش والتلقين، وأفهمنا الطلاب والتلاميذ تلميحًا وتصريحًا بأن الثوابت عنصرية وشوفينية وليست وقود وحوافز نهوض وأدوات تطور، وجعلنا التخصص والتعليم من أجل العمل لا من أجل الحياة، فنشأ بيننا جيلٌ أحادي التفكير وذو عقلية البعد الواحد المدمرة، وساوينا العلم بالمال ففقد العلم فريضته وقداسته ورسالته.

مشكلتنا اليوم أن مخرجات اللغة الإنجليزية -كمثال- ناصبتْ اللغة العربية العداء، واعتبرتها أداة تخلف؛ لأنَّ هذه المخرجات تربت في أوساط أدبية وتربوية بحتة، ولم تتربَّ في أوساط ومناخات لغوية وحضارية حقيقية لتفرق بين اللغة كأداة علم واللغة كهوية جامعة. ومشكلتنا أنَّ مخرجات القانون بمعزل تام عن علوم اللغة العربية وعلوم الدين والتاريخ وعلمي الاجتماع والنفس؛ لتتمكن من أصول التشريع وواقعيته وتوطينه. ومشكلتنا أن مخرجات الهندسة بمعزل عن العلوم الإنسانية ذات الصلة العضوية بها لتخرج لنا هندسة ذات هوية عربية إسلامية صديقة للمجتمع والثقافة والبيئة. ومشكلتنا أن مخرجات الإعلام بمعزل عن جملة من العلوم الإنسانية ذات التكامل العضوي معها لإخراج إعلام هادف وذي رسالة مضافة في العلم والتنوير.

وقِسْ على ذلك الكثير من التخصصات العلمية اليوم، والتي لا تتعاطى مع ما حولها من علوم مكمِّلة لها، ومتداخلة معها، إلا في مساقات فقيرة في الوقت والمضمون.

--------------------------

قبل اللقاء: "ليتنا نعمل على تطبيق رُبع النصائح والتجارب والحِكَم التي نتداولها على وسائل التواصل الاجتماعي يوميًّا وفي جلساتنا وحواراتنا، والتي تدعو للتسامح والتآخي والسمو بالنفس والفكر وتحمُّل تجارب النجاح وسبل تطوير الذات وتغيير الواقع والتفرُّد".. وبالشكر تدوم النعم!

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك