حاتم الطائي
استمرار التراجع وبصورة دراماتيكية في أسعار النفط، يجبرنا على التناول المتكرر لهذا الملف، لتأثيره المُباشر على كافة الجوانب الحياتية، هذا عدا عن كونه أصبح الحديث الحاضر دومًا في كل مجلس ومحفل..
وينبغي بداية في تعاملنا مع هذه الأزمة، عدم الانسياق وراء المقولات التي تروج إلى أنّ الأزمة لا تعدو كونها "سحابة صيف سرعان ما تنقشع" .. أو الاستسلام لوهم أن الأسعار ستعود إلى معدلاتها الطبيعيّة التي كانت عليها قبل تدهورها الأخير.. بل على النقيض من ذلك علينا أن نخطط آخذين في الاعتبار أنّ ليل هذه الأزمة سيطول، ولن ينجلي بالسرعة التي نأملها..
إنّ الأسباب التي أدت إلى الانهيار الحالي لأسعار النفط، عميقة وحادة ولا يمكن حلها بين يوم وليلة أو حتى في غضون أشهر.. فالمنافسة الشرسة بين المنتجين للاستحواذ على أكبر حصة ممكنة من السوق تؤدي بهم إلى زيادة الإنتاج، وينتج عنه حتميًا تخمة المعروض التي تترنح تحت تأثيراتها السلبية أسواق النفط العالمية..
ومما يؤسف له، أنّ الجهة المنوط بها تنظيم الإنتاج والحفاظ على التوازن بين العرض والطلب، انساقت وراء المغريات اللحظيّة لزيادة الإنتاج؛ لتجد نفسها أسيرة فوضى الإنتاج بتأثير أجندات سياسيّة، وكل هذا عمّق الانحدار في المُنحنى السعري لهذه السلعة الاستراتيجية وبصورة باتت تُهدد اقتصادات جميع الدول المُصدرة للنفط بالركود والتأزم..
علينا أن نعي جيّدًا أنّه - ووفقًا لما تؤكده الدراسات والمؤشرات - فإنّ العصر الذهبي للنفط قد ولّى ولن يعود - على الأقل في المدى المنظور- وبناء على ذلك علينا العمل على التكيّف مع الواقع الجديد، وإعادة ترتيب أولويّاتنا بما يحفظ للوطن إنجازاته وللمواطن الحياة الكريمة، ويضمن استمرارية المسار التنموي.. خاصة ونحن على أعتاب مرحلة تخطيطيّة جديدة تتمثل في الخطة الخمسيّة التاسعة، كما أننا على مشارف الرؤية المستقبليّة الجديدة "عمان 2040"..
إنّ هذه الظروف الموضوعيّة، والمتغيّرات المتسارعة، تدفعنا إلى ضرورة الإسراع في انتهاج المسالك البديلة التي تفضي إلى تحقيق الأهداف المأمولة دون الاستناد إلى حائط النفط الذي أصبح مائلا، بل وآيلا للسقوط ..
ولا يختلف اثنان، على أنّ المرحلة الجديدة تتطلب فكرًا، ومفردات جديدة قادرة على تحقيق شعار: "اقتصاد قوي بلا نفط"، وأول متطلبات انخراطنا في هذه المرحلة هو التخلّي عن الروح الانهزاميّة التي بدت تطغى على خطابات البعض، والتي عندما تسمعها يخال إليك أنّ بلادنا على شفير هاوية..! وهذا قطعًا يجافي الواقع، ويصادم الحقيقة؛ فعمان كانت قبل النفط وستظل بعد تدهور أسعاره وحتى نضوبه.. ويحمد لقيادتنا الرشيدة أنّها أرست أركان دولة حديثة وعصريّة مُجهزة ببنى أساسيّة تمكنها من التعامل مع أية مستجدات اقتصادية، هذا عدا عن أنّ بلادنا تتمتع بمقوّمات كبيرة، وتمتلك نقاط قوة متنوعة؛ منها : الاستقرار السياسي، وحكمة القيادة، وعراقة التاريخ، والموقع الاستراتيجي.. وغيرها من المقوّمات الاقتصادية التي ينبغي البناء عليها، واستثمارها الاستثمار الأمثل؛ لتجاوز اقتصاد السلعة الواحدة إلى اقتصاد متنوّع ومتين. ومنها القطاعات الخمسة الواعدة التي حددتها الخطة الخمسيّة التاسعة: الصناعة، والسياحة، واللوجستيّة، والتعدين والثروة السمكيّة، وهي قطاعات تشكل بديلا أكثر ثراءً واستدامة من ثروة النفط الناضبة والخاضعة في تسعيرها لعوامل خارجيّة..
إذا.. وفي ظلَّ هذه المعطيات يبقى التنويع أهم عناوين المرحلة الجديدة؛ التي تعد مرحلة تضافر الجهود بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني والمواطن الواعي بأهمية دوره في دولة المؤسسات والقانون، وتتطلب تفعيل الشراكات؛ من منطلق أنّ التنمية مسؤوليتنا جميعًا كشركاء في هذا الوطن وليس مسؤولية الحكومة وحدها.
وعند الحديث عن الشراكة، تبرز أهميّة مساهمة القطاع الخاص الحيوية في المرحلة المُقبلة، والتي لابد أولا من تهيئة البيئة اللازمة لتعظيم مردود هذه الشراكة؛ عبر خلق بيئة جاذبة للأعمال، وتحفيز نموّها وهذه مسؤولية الحكومة.. ولقد طال الحديث وتكرر عن هذا الأمر، ونتمنّى أن يُحسم عبر تحديث القوانين المُرتبطة ببيئة العمل وإيجاد الآليات الكفيلة بتحفيز الاستثمار لجذب الاستثمارات، والدخول في شراكات تنعش الاقتصاد وتدعم تطويره وتسهم في خلق فرص وظيفية لأبنائنا.
إنّ خلق البيئة المُحفزة للأعمال من شأنه أن يسهم في جذب الاستثمار الأجنبي للبلاد، وهو أمر نحن في حاجة ماسّة إليه خاصة في الوقت الراهن ومستقبلا لتعويض تراجع أسعار النفط.. الأمر الذي يحتاج إلى الكثير من الجُهد المهني الذي يقوم على منهج واضح وهدف محدد يمكن قياسه.
وهنا، أيضًا لابد من الإشارة إلى أهميّة تعميق دور سوق مسقط للأوراق المالية، ليقوم بدوره المأمول الذي يتجاوز المضاربات إلى تمويل المشاريع وتأسيس شركات مساهمة عامة قادرة على تنفيذ أهداف التنمية، وجذب الاستثمارات المحليّة والإقليميّة.
ومن مقتضيات العبور الآمن لتحديات المرحلة الجديدة؛ التركيز على بناء الإنسان عن طريق الاستمرار في نهج التوسّع في التعليم، وتعزيز جودته ونوعيّته، لأنّه يعول كثيرًا في المرحلة الجديدة على الإنسان ليكون مرتكزًا للاقتصاد المعرفي، والقادر على مواجهة التحديات، والنهوض بدوره كعنصر منتج ومتمكّن من أدوات العصر والتقنية..
ومن متطلبات التعامل الواعي مع المرحلة كذلك؛ الرؤية الشاملة للمشهد الاقتصادي وبكافة تفاصيله، والتي لا تقتصر على النظر إلى عجز الموازنة - كما يحاول أن يصوّرها البعض - خاصة مع ترقب إعلان الموازنة العامة للدولة للعام الجديد، بل ينبغي استصحاب الفرص التي يمكن استغلالها في اقتصادنا، لتحول هذا العجز إلى فائض، وتنقذ الاقتصاد الوطني من قبضة السلعة الواحدة.. ويفوت على الكثيرين أنّ الاهتمام يجب أن ينصب - وبشكل كبير- على تطوير الاقتصاد والقطاعات غير النفطيّة، والخطط والآليّات التي يمكنها أن تدعم ذلك.
ما طرحته آنفا، مجرد رأي في الواقع الذي ترتب على التدهور الكبير لأسعار النفط ملقيا بظلاله القاتمة على مجمل الأوضاع الاقتصادية لبلادنا، وهو رأي يأتي في سياق ما تحتاجه المرحلة من عصف ذهني لمختلف فئات وشرائح المجتمع في إطار حوار معمّق لتعزيز الخطاب الاقتصادي، باعتبار أنّ تضافر الجهود أمر أساسي لتجاوز تداعيات هذه المرحلة الصعبة.