الشرق الأوسط.. حلبة الصراعات القطبيَّة القادمة

عبيدلي العبيدلي

تتسارع خطوات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط على نحو لافت للنظر. وما يثير تساؤلات في ذهن المراقب السياسي للمشهد الشرق أوسطي، تنتابه نوبة من الاندهاش مصدرها تناقض الأحداث وتضاربها، وسرعة مفاجأتها إلى درجة تفقدها الكثير من منطقيتها. هذه الحالة المثيرة للعديد من التساؤلات ذات الثقل الإستراتيجي بشأن مصير المنطقة، لها علاقة مباشرة بمستقبل العلاقات الدولية. ويقتضي فهم الصورة على نحو الأفضل العودة قليلا نحو الوراء، من أجل إطلالة سريعة خاطفة على تطور الأوضاع الدولية، وفي القلب منها تلك التي عرفتها منطقة الشرق الأوسط.

فعلى المستوى الدولي، شكَّلت صراعات الحرب الباردة التي صممت خارطة العلاقات بين القطبين الدوليين: الكتلة الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفييتي، والكتلة الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة السمة الرئيسة التي خضعت لها العلاقات الدولية حتى منتصف الستينيات، عندما بدأ أول تحول إستراتيجي نوعي، تمثل في انبثاق كتل إقليمية تحاول ان تميز نفسها عن المحورين الرئيسين. فشهد العالم بروز منظمات من مستوى حركة عدم الانحياز، التي لم تكن دول الشرق الأوسط، بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعيدة عنها، والاتحاد الإفريقي الي كانت دول الشرق الوسط في القلب منه.

تُوِّج ذلك بتخلخل المؤسسة السوفييتية، إلى درجة انهيارها في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وتراجع في العضلات الأمريكية، رغم أنها بادرت في رسم مكونات العلاقات الدولية القائمة على سيادة القطب الواحد الذي تتصدره واشنطن. لكن ذلك الوضع لم يقدر له أن يستمر طويلا بفعل الأسباب التالية:

1- الضَّعف الذي بدأ يدب في جسد النظام الأمريكي، وضاعف من هزاله الكوارث الاقتصادية التي عصفت بمكوناته الهيكلية، ولم تكن أزمة 2007 سوى الأبرز فيها، عندما أعلنت العديد من المؤسسات المالية الأمريكية إفلاسها، واضطرت الدولة للتدخل المباشر لدرء أي انهيار للاقتصاد الأمريكي؛ الأمر الذي سيجر معه تراجع مكانة واشنطن الدولية. وكجزء من مساعيها لاستعادة مكانتها العالمية، مهدت الولايات المتحدة الأرض لإشعال فتيل حروب محلية، او إقليمية تساعدها على التدخل من جانب، وتساهم في اخراج اقتصادها من حجرة الإنعاش من خلال تصدير كميات ضخمة من السلاح، بلغت أقيام صفقاتها مئات المليارات من الدولارات، من جانب آخر. وكانت المنطقة العربية هي الساحة الأكثر استعدادا لتقبل هذا المشروع الأمريكي. فعرفت البلاد العربية حروبا داخلية شرسة، وصدامات حدودية يمكن سرد قائمة طويلة منها. لكن يمكن الاكتفاء بالحروب الدائرة اليوم في هذه المنطقة للدلالة على صدق هذا التشخيص. ولا بد لنا هنا من التوقف عند ثلاث حروب مفصلية هي: الحرب الإيرانية-العراقية التي كانت الآلة العسكرية الأمريكية متواجدة على جبهتي القتال المتصارعتين، والغزو الصدامي للكويت، والغزو الأمريكي للعراق.

2- النهوض الروسي المباغت، بحضور شخصية قيادية من مستوى فلاديمير بوتين -من المصادفة التاريخية أن يكون اسم مؤسس الدولة السوفييتية هو فلاديمير لينين- الذي شرع في تعزيز مكانة موسكو الدولية، وهو أمر لم يعد سرا حتى في الأدبيات الأمريكية التي باتت تعترف علنا بذلك، كما جاء في كتابات الأستاذ في جامعة دنفر للدراسات الدولية في ولاية كولورادو جوناتان أدلمان، التي تشير إلى "أن الإحياء المفاجئ لروسيا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين هو من أكثر الأحداث إدهاشا في الآونة الأخيرة، (وأن) الغربيون يوجهون انتقادات للرئيس فلاديمير بوتين، وباراك أوباما قال عن روسيا إنها (قوة إقليمية)، (مضيفا) أصبحت روسيا واحدة من القوى الرائدة في العالم بفضل قدرتها العسكرية القوية وموقعها الجيوسياسي ومهارة قوادها، (لافتا) إلى أن روسيا أيضا تمكنت من تحسين العلاقة مع إسرائيل، التي كانت منشدة إلى الولايات المتحدة، وأما الآن تريد من موسكو أن تساعدها، وفي أمريكا اللاتينية روسيا على علاقة جيدة بالأرجنتين والبرازيل، وهي توقع عقود مع هذه الدول في المجلات العسكرية والاقتصادية، (خاتما) من الواضح أن بوتين ذكي وواقعي يقود روسيا لتصبح قوة عظمى".

3- على نحو موازٍ تطلُّ بكين برأسها باحثة لنفسها عن مكان متميز له ثقله المعترف به دوليا في خارطة العلاقات الدولية، وهو أمر بدأت تعترف به أيضا الكتابات الأمريكية أيضا، كما نجده في تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية -على موقعها الإلكتروني، يحذر من "أن الصين ستحل حتما محل الولايات المتحدة كقوة عظمى بارزة في العالم، لكن ذلك لا يعني أنهم يحبذون هذا الاحتمال... ويؤكد كثيرا مما يقوله الخبراء في واشنطن من أفكار بشأن تحول ميزان القوة بين الولايات المتحدة والصين. ويتحدث تقرير نشره موقع الجزيرة الإلكتروني عن أن الصين "مثلها كمثل الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، تضع أموالا حقيقية على الطاولة -الكثير منها- لبناء علاقات اقتصادية وبنية أساسية قوية مع البلدان في مختلف أنحاء العالم. وهذا من شأنه أن يمكن العديد من البلدان الأخرى من تعزيز نموها، وفي الوقت نفسه ترسيخ زعامة الصين الاقتصادية والجيوسياسية العالمية.. والأسوأ من هذا أن السياسة الخارجية الوحيدة التي تلاحقها الولايات المتحدة بشكل منتظم تتمثل في حروب متواصلة وغير مجدية في الشرق الأوسط، في حين تستمر الصين في فرد عضلاتها الجيوسياسية".

هذه -ومؤشرات كثيرة أخرى غيرها- تدلل على أن هناك انقلابا في موازين القوى، لكنها بالقدر ذاته تنذر باحتمال عودة العالم إلى القطبية، التي ربما تكون هذه المرة ذات رؤوس ثلاث يقع الأول منها في واشنطن، والثاني في موسكو، والثالث في بكين. وربما يكون هذا الأخير هو الأكثر حضورا في رسم خارطة العلاقات الدولية في الفترة المقبلة.

وحيث إنَّ ساحة الشرق الأوسط هي اليوم الأكثر سخونة في العالم، وحيث إننا نشهد تدخلَ هذه الأقطاب بشدة وعمق في أحداث هذه المنطقة؛ فمن الطبيعي أن يأتي السؤال: هل الشرق الأوسط هي حلبة الصراع التي ستُفرز نتائجها مصير العلاقة بين تلك الأقطاب الثلاثة؟

تعليق عبر الفيس بوك