القمَّة الخليجيَّة.. الهاجس الأمني ودفع الإرهاب

د. صالح المسكري

تستضيفُ الرياض، اليوم، اجتماع الدورة الـ36 للمجلس الأعلى لمجلس التعاون الخليجي، وقد أكمل وزراء الخارجية الخليجيين وضع اللمسات الأخيرة على جدول أعمال القمة عندما عقدوا أمس اجتماعهم رقم 134 في "قاعدة عسكرية جوية" بالمملكة؛ تحضيراً للقمة التي كالمعتاد تُعقد في ظروف دولية وإقليمية استثنائية بالغة الدقة، وتحديات غير مسبوقة تواجه منطقة الخليج والمنطقة العربية بأسرها، ودائماً ما توصف القمم الخليجية منذ ثلاثة عقود ونصف العقد بأنها استثنائية وحساسة ودقيقة. ومن المتوقع أن يتم التأكيد في هذه القمة على مواقف دول الخليج تجاه الأزمة في الجمهورية اليمنية الداعمة للشرعية ممثلة في شخص الرئيس اليمني هادي، وتأكيد الموقف الدائم والثابت تجاه الشعب الفلسطيني، ومتابعة تداعيات الحرب في سوريا ومأساة الشعب العربي السوري، إضافة الى دعم وحدة العراق والحوار الوطني في ليبيا، وتسجيل المواقف الدائمة الرافضة والمنددة بالسياسة الإيرانية وتدخلاتها في المنطقة واحتلالها للجزر الإماراتية الثلاث، ورفض الإرهاب بكافة أشكاله وصوره وأياً كان مصدره، ومباركة الإجراءات والتدابير التي تتخذها دول المجلس لمواجهة هذه الظاهرة والآفة الخطيرة.

في القمة السابقة التي عُقدت في العاصمة القطرية الدوحة، خرج البيان الختامي للقمة بقرارات أغلبها تركز في الجانب الأمني ومواجهة الإرهاب والتطرف، ولا يتصور أن يخرج بيان القمة القادمة عن البيانات السابقة، لا من حيث المفردات اللغوية التي حفظناها عن ظهر قلب، ولا المنطلقات المعهودة والأهداف المنشودة والنتائج المتوقعة وغير المتوقعة، حيث اشتمل البيان السابق لقمة الدوحة على إنشاء قيادة عسكرية موحدة لتعزيز أمن واستقرار دول المجلس وبناء منظومة للدفاع المشترك تحقق الأمن الجماعي، وأكاديمية للدراسات الإستراتيجية والأمنية مقرها دولة الإمارات، وجهاز للشرطة الخليجية لتعزيز العمل الأمني ومكافحة الإرهاب. وفي المقابل، اكتفى البيان بالإشارة الى إطلاع قادة الخليج على مرئيات الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى بشأن إنشاء هيئة عامة للغذاء والدواء لدول مجلس التعاون، وإقامة مركز خليجي متخصص للصحة العامة والوقائية، والدراسات التقويمية للإستراتيجية الإعلامية لدول المجلس، وتقييم واقع وبرامج ثقافة الطفل، وقرر المجلس الأعلى إحالة تلك المرئيات للجان الوزارية للاستفادة منها.

وهنا.. يبرُز مدى التباين الكبير بين فكر المجلس الأعلى المسكون بالهاجس الأمني منذ إنشاء مجلس التعاون عام 1981م، وبين توجهات ورغبات المواطنين ممثلة في الهيئة الاستشارية التي أنشئت عام 1997م في دولة الكويت، والتي تحاول أن تسجل حضوراً في الذاكرة السياسية لأبناء الخليج ولو بالقدر اليسير الذي يسمح به قادة دول المجلس، وتحاول أيضاً أن تخفف من طغيان ذلك الهاجس الأمني بتقديم الرغبات الشعبية وإبراز الجوانب الإنسانية والحياتية والظهور بمستوى معقول من الحرص على المصالح العامة وتعزيز الحياة الكريمة واللائقة للمواطنين، خاصة وأنَّ كثيرًا من الدراسات الأكاديمية والبحثية المحايدة تتحدث باستمرار عن ضعف المردود الاجتماعي والصحي والتعليمي والاقتصادي لمجلس التعاون الخليجي، وأن هذه النواحي تأتي فقط كمحسنات أو منكهات لبيانات القمم الخليجية، وتنبه إلى اتساع الفجوة بين مؤسسة مجلس التعاون ككيان سياسي وبين تحقيق المصالح العليا لشعوب، وأنَّ المجلس الخليجي لا يزال دون مستوى الطموح والآمال التي يتطلع إليها المواطنون في دول مجلس التعاون منذ أكثر من 35 عاماً.

ومعروفٌ أنَّ بعضَ دول مجلس التعاون لا تتيح لشعوبها مشاركة سياسية مباشرة وداعمة للقرار السياسي، وأغلب المجالس البرلمانية هي أشبه بمجالس البلديات أو المجالس الخدمية أو بيوت الخبرة وان تَسمّت بأسماء أخرى، ولا تزال الحكومات في هذه الدول غير مُلزمة باقتراحات وتوصيات المجالس البرلمانية، بل إنَّ الحكومات لها اليد الطولى في تقدير وتقرير السياسات العامة ولا معقب لأمرها؛ الأمر الذي ينطبقُ تماما على الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى لمجلس التعاون؛ حيث يغلب على هذه الهيئة الطابع الشَّرفي أو البروتوكولي، ولا توجد لديها أية اختصاصات برلمانية حقيقية تشريعية أو مالية أو رقابية، بل لا يوجد لديها نظام أساسي نافذ تستند إليه، ومن الأهمية بمكان مستقبلاً التفكير في استقلالية هذه الهيئة عن المجلس الأعلى سواء من حيث التبعية أو الصلاحيات أو التشكيل، وتمكينها من المشاركة السياسية الناجزة، وأن تكون هذه الهيئة هيئة منتخبة من برلمانات الدول الأعضاء وليست مُعيّنة بقرار من قادة المجلس، لتكون ممثلا حقيقيا للشعوب في الدول الأعضاء ونواة لبرلمان خليجي قوي له سلطة اتخاذ القرارات المصيرية في المستقبل كالبرلمان الأوروبي أو حتى الإفريقي، يُساهم في إدارة وتوجيه المصالح العليا ويشرف على تنفيذ الإستراتيجية الخليجية الموحدة، وأن تكون هذه الهيئة أو هذا البرلمان الخليجي مستقبلاً بالقوة التي تسمح له بالمصادقة على مقررات القمم الخليجية أو رفضها وتكون قراراته قابلة للتطبيق مباشرة كسلطة تشريعية مستقلة وليس كهيئة استشارية تابعة، من أجل الوصول الى تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء التي بَشّر بها النظام الأساسي منذ قيام المجلس.

... إنَّ شعورَ المواطنين بأنهم جزء من العملية السياسية في بلدانهم ومن القرارات المصيرية التي تحرك واقعهم وتتحكم في مستقبلهم يمنحهم بلا شك الثقة في أنفسهم وفي أنظمتهم السياسية ويقوي لديهم الإيمان بالمواطنة والشراكة الحقيقية، ويحصنهم من التطرف والارتهان للآخر، ومن الإرهاب الذي تتعدد أسبابه ودواعيه بدءا بالبنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمعات كانتشار التخلف والبطالة وسوء توزيع الثروة والفساد الإداري الحكومي، وما ينتج عن ذلك من كسب غير مشروع وثراء غير مستحق لفئة قليلة من المجتمع يقابله حرمان وإقصاء للشريحة الأكبر، وانتهاءً بالظلم السياسي والعزل عن المشاركة في إدارة شؤون الدولة، وفرض الوصاية الفكرية والثقافية على الشعوب، وتخويفها بالقوانين غير المنصفة وغير الدستورية، وتقييد الحريات العامة والعدالة الاجتماعية، وإحكام الرقابة الأمنية على أقوال وأفعال المواطنين؛ حيث يصابون بالإحباط والخوف وعدم الاطمئنان والتردد في الإنتاج والإبداع الفكري، كما تشعرهم هذه الإجراءات بالإهانة وأنهم مجرد رعايا تابعين يُساقون إلى مصائرهم، بدون إرادة، ولا رأي لهم في تدبير شؤونهم العامة وفي تقرير مستقبل بلدانهم السياسي.

دول مجلس التعاون الخليجي التي لم تتجاوز البطاقة الشخصية في الحقوق المدنية لمواطنيها، أقرَّت -وفي وقت مبكر- الإستراتيجية الأمنية لمكافحة التطرف المصحوب بالإرهاب في العام 2002م، وأصدرتْ في العام ذاته إعلان مسقط بشأن مكافحة الإرهاب، كما توصلت إلى توقيع اتفاقية لمكافحة الإرهاب في العام 2004م، ثم شكلت لجنة أمنية دائمة مختصة بمكافحة الإرهاب تعقد اجتماعاتها بشكل دوري كإحدى اللجان الأمنية المتخصصة في العام 2006م، وفي ديسمبر من العام 2012م اعتمد قادة دول المجلس الاتفاقية الأمنية الخليجية التي ترمي إلى مواجهة المعارضة الداخلية "كما صرح بذلك الأمين العام للمجلس"، وتُمكن هذه الاتفاقية كل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي من اتخاذ إجراءات قانونية اعتمادًا على تشريعاتها الخاصة ضدّ المواطنين أو المقيمين أو المجموعات المنظمة التي لها ارتباط بالجريمة والإرهاب، وأعطتْ الاتفاقية الحق لأية دولة طرف بإحاطة الأطراف الأخرى بالمعلومات والبيانات الشخصية عن مواطني الدولة الطالبة أو المقيمين بها، وأصبح المواطن الخليجي بهذه الاتفاقية عُرضة للملاحقة في أي دولة عضو واعتقاله من منافذ الحدود دون إنذار وفق تبادل البيانات الشخصية بين الدول الأعضاء، واعتبرت منظمة "هيُومن رايتس ووتش" أحكام الاتفاقية الأمنية الخليجية بأنها غامضة وتعرض حرية التعبير والخصوصية للخطر.

وأمام هذا الإحكام والرقابة الأمنية المحكمة على المواطنين، وفي ظل عدم وجود مشروع سياسي موحد وسياسة مشتركة لدول الخليج وارتفاع سقف التخويفات والتحذيرات الأمنية من الحلفاء التقليديين غير المخلصين، سلمت بعض أنظمة الخليج رقابها ورقاب موطنيها للدول العظمى ومنحتها التسهيلات العسكرية وفتحت أراضيها وبحارها وأجوائها للتواجد الأجنبي الذي باتت قواته وأساطيله تتجول في بلدان الخليج بحرية تامة، ومعلومٌ أن الوجود الأجنبي في دول مجلس التعاون ليس لمجرد توفير المظلّة الأمنيّة والقيام بدور الحماية التقليدية المدفوعة الثمن، إنما أيضاً من أجل تأمين منابع النفط والسيطرة على المواقع الإستراتيجية الحيوية وفق سباق الدول الكبرى، وأيضاً استخدام نفط الخليج وغازه ورقة في يد الدول الحامية في علاقاتها التجارية والإستراتيجية بالدول المعتمدة على استهلاك نفط المنطقة، إضافةً إلى سيطرة دول الحماية على الصفقات الأمنية والعسكرية؛ حيث تحصد الولايات المتّحدة وحلفاؤها الغربيين معظم مشتريات السلاح الضخمة، وعقود شركات الأمن والأجهزة الأمنيّة والخبراء العسكريين، فضلاً عن التكلفة الهائلة التي تتكبّدها البلدان المضيفة للقواعد العسكرية.

ولا نستطيع إغفال التحديات الأمنية الأخرى التي تواجه دول الخليج؛ ومن أهمها: المقومات الحياتية الأساسية؛ وهي: الماء والغذاء والطاقة؛ حيث تُعتبر دول المنطقة من أفقر دول العالم من ناحية الثروة المائيّة والغذائيّة، وهي تعتمد بشكلٍ كلّي على ثروةٍ ناضبةٍ في توفير احتياجاتها من الطاقة والكهرباء هي النفط، وفي المقابل فإنّ استهلاك المنطقة للمياه والغذاء والكهرباء يُعتبر الأعلى عالميًّا وهذه التّركيبة المكوّنة من استهلاكٍ مفرط وشُحّ في الموارد وعدم التوصل الى بدائل حقيقية للبترول مصدر الدخل الرئيسي يُنذر بتحديات خطيرة وحرج كبير لدول مجلس التعاون الخليجي في المستقبل.

Sh-almaskry5@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك