الشوعة والحبن

عائشة البلوشية

من يقرأ هاتين الكلمتين ﻷول مرة يظن أنهما اسمان لعفاريت أو لصغار الجان، وحقيقة أصدقكم القول بأنني كنت في طفولتي أرتعد خوفا من "الشوعة"، ﻷنني كنت دائمًا ما أسمع الأمهات لدينا يخوّفن أطفالهنّ بقولهنّ "هيا كل طعامك وإلا ستأتيك الشوعة" ويقمن بتقليد صوت الشوعة، وأتذكر جيّدًا بأنّ جدّتي الحبيبة أطال الله في عمرها، كانت على سبيل المزاح إذا قلنا لها ونحن عائدات من المدرسة، بأننا نتضوّر جوعا ترد علينا :"جوع الشوع مخرق الجذوع"!، فترسخ في ذهني ذلك الخوف من الشوع والشوعة، وبعد أن عرفت بأنّها شجرة، كان عقلي الصغير يصور لي بأنّها شجرة تتحرك من مكانها وتمشي لتخيف الأطفال، تمامًا كما في سلسلة أفلام The Lord Of The Rings "ملك الخواتم"..

وتقول الأسطورة العمانيّة القديمة بأنّه وعندما كانت الأشجار تجاور بعضها بعضا، حدث شجار قوي بين شجرة الشوع وشجيرة الحبن، واحتدم الجدل بينهما وحاولت بقيّة الأشجار في عالم النبات حل المعضلة، لكن الكره وصل بينهما حدًا لا يجدي معه التدخّل والمحاولات، وكانت الخاتمة بأن دعت شجيرة الحبن على شجرة الشوعة قائلة: أسأل الله أن تسكني بقيّة حياتك قمم الجبال والصحارى، وتظل عروقك تضرب الأعماق تبحث عن قطرة الماء، وأن تعصف بك الريح ويظل صراخك يملأ الدنيا كلّما مرّت بك نسمة هواء"، فغضبت الشوعة غضبا شديدًا وردت على الدعاء قائلة: "أمّا أنا فأدعو عليك بألا تفارق المرارة أوراقك وأغصانك وأزهارك، وأن يظل رأسك وقرونك منكّسة نحو جداول الماء ومجاري الأودية طوال حياتك، وأن تموتي وتنتهي بانتهاء المجرى"، وأصبح اليوم من النادر جدًا أن نرى شجر الشوع والحبن في مكان واحد، وللأمانة فإنّ بعض العمانيين يستخدمون أغصان الشوع للف الشواء عند تعذّر الحصول على ورق الموز قبل طمره في التنور تحت الأرض، وذلك ﻷنّ أغصان الشوع تعطي نكهة عطرية لذيذة للشواء، أمّا الحبن فمشهور بمرارته الشديدة، وكانوا ينهوننا عن قطف أزهاره ذات الرائحة الطيّبة، حتى لا يمس ذلك الإفراز الأبيض لنبتة الحبن أيدينا...

إنّ العبرة التي تسكن حنايا الحكاية رغم أنّها من عالم النبات، إلا أنّها تعلمنا نحن البشر الكثير، إنّ الخلاف والاختلاف موجود منذ الأزل، لكن التعنت والتزمت والتمسّك بالرأي مهما بلغت درجة وضوح الخطأ والكوارث التي تأتي من بعده، هي المصيبة العظمى، والعقدة الأنكى، لقد حبانا الخالق عز وجل بالعقل، وقال في محكم كتابة في الآية 269 في سورة البقرة: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلبَابِ)، وهذا يعني بأننا نحن البشر مطالبون بعدم الإنجرار وراء المواقف الخادعة، أو المظاهر البراقة لبعض الأمور، بل يجب علينا استغلال ألبابنا في استبصار الحكمة التي هي ضالتنا، والواجب علينا البحث عنها، كما أوضح رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، إن ديننا جميل وسمح ورائع، وجاء خاتمًا لجميع الرسالات السماوية، ولكن البعض انجر وللأسف ﻷبواق الفتنة والشقاق، وظنوا أنّهم حققوا الإنجازات العظمى، فأصبحت اليوم مناظر الدمار والخراب هي سمة مختلف بلادنا المسلمة، فجاعت الشعوب، وعطشت الأحياء والأرواح، وتشردت النساء والأطفال في البحار حتى قضوا غرقا، وملأت الكوابيس منامات الأطفال الذين لم يجدوا زجاجة الحليب التي تشبع بطونهم، فناموا قسرا، ﻷنّ السلام بات ينحر كأضحية ﻷجندات قد تكون مجهولة أو معلومة، كما تنحر الخراف في عيدنا الأكبر، ولكن بالرغم من كل ذلك حسن ظني بربّ العباد يجعل الأمل في قلبي كبيرا، بأن الأفضل قادم لا محالة..

كنت في زيارة لمرافقة وفد رسمي إلى الجبل الأخضر بمحافظة الداخلية في عام 2005م، ونحن نقتفي خطوط ذلك الطريق الملتوي للوصول إلى القمة، هالني منظر خلق عجيب، "شوعة" تقف منتصبة على صخرة مستقلة بكل عنفوان، وحقيقة أنّ من كانت معي في نفس المركبة لم تملك إلا أن تقول "سبحان الله، كيف نبتت هذه الشجرة وكبرت وتشبثت بهذه الصخرة الصلدة"، فرويت لها حكاية الشوعة، فضحكت معلقة بأنني أذكرها بكتاب "كليلة ودمنة" برواياتي لكل شجرة وكهف وجبل نمر عليه، ولب القول هنا بأنّ الشوعة ذات الصوت المخيف لخواء جذوعها عندما تعصف بها الريح، تتشبث بأرضها كما أراد لها خالقها عز وجل، وهي نبات لا يعقل، ولكننا نحن البشر لماذا لا نتشبث باستبصار الحكمة والبحث عنها في كل الأحداث التي تمر بنا ومعنا وحولنا، بل نركن إلى التماهي مع أحداث حيواتنا اليومية بحسب ما تكون.

إن كل موقف يمكن أن تخرج منه حكمة بعدد الأشخاص الذين يمرون به، وليس شرطا أن نخرج جميعا بنفس الحكمة، ولكن علينا البحث عن ذلك النور الداخلي في كل منّا لنضيء طريق المعرفة والحكمة التي تخدم الأرض وكل المخلوقات، وحكاية الشوعة والحبن تعلمنا أنّ الانتقال من مكان إلى آخر أو من موقف إلى آخر لا يعني نهاية العالم، بل قد تكون بداية جميلة وجديدة تعيد للروح رونقها وصفائها، وتدفعنا للمزيد من العطاء والإنتاج الناضج...

توقيع: "إلى جندي من مسكن: الفقر هو الجيوب الخالية من المعرفة والذكريات الغنيّة، وها أنا أرفع القبعة احترامًا".

تعليق عبر الفيس بوك