البناء الاجتماعي في فكر السُّلطان قابوس

عبدالمنعم همَّت

من أكبرِ التحدياتِ التي تواجهُ المجتمعات -خاصة العربية- كيفية بناء نظام اجتماعي متماسك، ومن ثمَّ المحافظة عليه من التفكُّكِ والانهيار. وفي ظلِّ تصدُّعات البناء الاجتماعي العربي وحالة الهشاشة التي أصابت معظم الدول العربية، نحتاج أن نقف عند نموذج البناء الاجتماعي العماني، والذي حافظَ على تماسكه، وساهم في حركة النهضة التي شَيَّدتْ أساساً متيناً للدولة ِالحديثة. ولا شك أنَّ سلطنة عُمان لديها رصيد وافر من التجاربِ بحكم موقعها الجغرافي وتاريخها الحافل. فأهلُ عمان ركبوا البحر واختلطوا بالكثيرِ من الحضاراتِ. كما شهدتْ عمان هجرات آسيوية وإفريقية انصهرتْ في المجتمع العماني المتسامح.

مفهوم البناء الاجتماعي

ويُعرِّف آيفانز بريجاردس البناء الاجتماعي بـ"العلاقات التي تربط بين الجماعات والتي تتميز بدرجة عالية من الثبات والتركيب"، ويُضيف دويتش إلى هذا التعريف وحدة الهدف التي تسعى الجماعة لتحقيقه.

ومن هنا، يُمكننا القول بأنَّ البناءَ الاجتماعي المتماسك هو ذلك البناء المتجاوز لكل عناصر الهشاشة والتصدُّع، ويربط بين هذه الجماعات وحدة الهدف، والتي تعبِّر عن نفسها في المسارات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وتُشكل عقلاً جمعيًّا، رغم أنَّ درجة الاستجابة للدفاع عن هذا الهدف تختلف من فرد لآخر داخل الكيان الواحد، ولكن تزداد درجة الاستجابة في الأوقات التي توجد فيها مُهدِّدات ذات تأثير سلبي على البناءِ الاجتماعي.

خصائص المجتمع العماني

المجتمع العُماني له خصائص تتمثَّل في وحدة الدين واللغة؛ فالدينُ الإسلاميُ واللغة العربية والموروث العماني تُشكل نسيج البناء الاجتماعي العماني، إضافة إلى التعدُّد المذهبي واللهجات والتعدُّد القبلي والعرقي. هذه المكونات صارت دعائم لوحدة البناء في المجتمع العماني، بل أكثر من ذلك، فلقد أفصح التعدُّد المذهبي عن حالة من النضج الاجتماعي المبكر بعد 1970. رغم أنَّ نفس هذه الخصائص كانت سببًا في تصدُّع وانهيار كثير من المنظومات العربية. الإسلام بدلاً من أن يكون عاملا للوحدة، عبَّرت عنه بعض الشعوب من خلال التعصب المذهبي الذي أدى لانتشار حركات الإقصاء والعنف اللفظي والبدني فصار المذهب -عند البعض- ديناً. واتخذت بعض الدول العربية الموروثات واللغة كأدوات استعلاء عرقي وطائفي، فنتج عن ذلك حالة من الفراغ الاجتماعي المتنامي، فانفجر نتيجة للبناء الاجتماعي القائم على نظرية الإزاحة والإحلال والإبدال. حالة السِّلم الاجتماعي الموجودة في عُمان لم تأتِ مُصادفة، بل من خلال فهم عميق من السلطان قابوس لطبيعة المجتمع العماني واستخدم منهجاً فكريًّا استطاع من خلاله بناء مجتمع متماسك موحَّد الهدف، واضعًا الإنسان كمحور وأساس للبناء الاجتماعي "الإنسان هو صانع التنمية؛ فيجب أن يكون هدفها إسعاده وإعداده ليعطي بلاده أحسن ما عنده من إنتاج".

البناء الاجتماعي عن السلطان قابوس

يهدفُ الفكرُ الاجتماعي عند السلطان قابوس إلى إيجاد بناء اجتماعي مُستدام قابل للتطور عبر التجربة والممارسة؛ وذلك عبر الآليات التالية:

1- العلاقات المستقرة: يهدفُ السلطان قابوس إلى بناء علاقات مستقرة في المجتمع العماني؛ وذلك عبر إيجاد تكتيكات ناجعة وناجحة لحلِّ أي نزاعٍ أو خلافٍ يُطل برأسه.. ومن أكبر التحديات التي واجهها السلطان قابوس وُجُود حركة عقائدية مسلحة في إقليم ظفار. كان واضحا للسلطان قابوس أنَّ الفكر يُواجَه بالفكر؛ لذلك قدَّم برنامجاً فكريًّا أساسهُ تنمية المواطن العماني، وإنشاء بُنى أساسية وتحسين الحالة المعيشية للمواطن. وبدأ تنفيذ خطوات البناء بوضع خطط خمسية استطاعتْ أن تُؤتي أُكلها؛ فكسب ثقة شعبه كقائد ومفكر. ومن خلال برامج التنمية المتوازنة والفكر السياسي الثاقب استطاع إقناع حاملي السلاح بصدق ورجاحة عقله فانضموا إلى حركة البناء والنهضة؛ وبذلك استطاع تفكيك ما يسمى بـ"ثورة ظفار" ذات الطابع الماركسي والقومي العربي المدعوم من دول المعسكر الاشتراكي (حينها)، إضافة إلى ذلك، كانت هنالك مجموعات كبيرة، تقدَّر بـ50 ألف عماني (تمثل حوالي 10% من سكان عمان وقتئذ) قد هاجرت إلى الدول العربية المجاورة وشرق أوربا، وكان عدد سكان عمان في العام 1970م حوالي 462 ألفا. وبالتأكيد تعدُّ هذه العناصر مُؤهَّلة للمساهمة في حركة النهضة بحكم الخبرات التي اكتسبتها من عملها بالخارج والتعليم النوعي الذي تلقته. ولعودة هؤلاء، أصدر السلطان قابوس عفوا عاما، وأمر بالإسراع بتكوين مكاتب في هذه الدول تسهل عليهم العودة إلى أرض الوطن. وبتفكيك الحركة المسلحة وعودة منتسبيها وإشراكهم في حركة النهضة العمانية، انتهت أكبر مهددات نسف الاستقرار.

2- مبدأ الاستمرار: يهدفُ السلطان قابوس إلى بناء مُجتمع عماني يحتفظ لعدة أجيال بثبات الهياكل وأنماط العلاقات السائدة بين الأفراد؛ وذلك عبر تأسيس مجتمع تتوافر فيه مقومات التطور، واستلهم هذه الهياكل التي تدار بها الدولة من الإسلام والتراث العماني، وقام بتطويرها لتتناسب مع عُمان، واستطاع غرس مفهوم التسامح والتضحية من أجل الوطن ونكران الذات؛ فأمضى حتى الآن 45 عاماً يعمل فيها بعزيمةٍ وإصرارٍ لتطوير عمان والمواطن العُماني، مُوفرًا له كل سبل الحياة الكريمة ومناخاً يكفلُ حريةَ المساهمة والمشاركة في حركةِ النهضة.

نضوج البناء الاجتماعي العماني

المجتمعُ الهش كما عرَّفه جين جونسون "هو ذلك المجتمع الذي يُعاني من ضعف التضامن المتبادل فيما بين الأفراد والجماعات. ويظهر هذا الضعف في تفاقم صور عدم المساواة والاستبعاد الاجتماعي وفقدان الثقة ونشوب الصراعات القائمة على أسس التمييز الاجتماعي المختلفة"، وهي المؤشرات ذاتها التي يمكن بموجبها قياس التماسك الاجتماعي. وفي اعتقادي أنَّ أكبر مُؤشر تماسك البناء الاجتماعي العماني أنَّ حالة العنف -وباعتراف المؤسسات الدولية- (صفر) وأي نجاح أكبر وأرقى من هذا!

ولقياس حالة تماسك البناء الاجتماعي العماني علينا ملاحظةُ الآتي:

أ- الثقة والحب للقيادة: من خلال الفكر الثاقب والممارسة الايجابية لفن القيادة، استطاع السلطان قابوس أن يكون مُلهمَ الشعب العماني وقائدهم المحبوب، ويظهر ذلك في حبهم العميق لفكره وشخصه ومنجزاته. ومن المعروف أن القائد يكتسب ثقة الشعب عبر قدرته على التأثير الملهم في الناس وعلو كعب فكره ورؤيته المستقبلية وقدرته على اتخاذ القرارات والإجراءات السليمة وإحداث التغيير الإيجابي والمرضي للشعب، إضافة إلى قدرته على الحسم والإقناع على المستويين النظري والعملي، ويقينهم في أنه يعمل لصالح الناس.

ب- التحضر الخلاق: عادةً، ترتبط القسمة العادلة للثروة والسلطة إلى حالة من الاستقرار. المدن العمانية لا تعاني من وجود الأحياء (العشوائية) وغير المخططة. ومن المعروف أنَّ تلك المساكن العشوائية التي تحيط بالمدن تُعبِّر عن الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين المدينة والهامش، وتُشكل تلك المساكن بيئةً حاضنةً للعنف والفساد والجريمة، وتعكس التفكك الاُسري، وتسبب حالة من الفوضى للمدينة.

ج- السوية الثقافية والاجتماعية: تختفي في المجتمع العماني ظاهرة الاستعلاء الثقافي والعرقي والقبلي، فالتساوي في الحقوق والواجبات هو الشكل السائد. فلا يتم تمييز أحد بسبب انتمائه لمجموعة عرقية أو طائفية أو جغرافية. هذا التساوي والعدل ساهما في إثبات صحة منهج السلطان قابوس، وانعكس في حالة الرضا الاجتماعي وحفز الجميع للعمل والاجتهاد.

د- التماسك الاجتماعي: هنالك مجتمعات تظهر فيها حالة الانقسام الاجتماعي، وفي هذه الحالة يكون الولاء للقبيلة أو المذهب أو الأعراف أقوى من الانتماء والولاء للوطن؛ مما يؤدي إلى تفكُّك النسيج الاجتماعي. ولكن في عُمان يعلو صوت الوطن والمشاعر الوطنية فوق كل ولاء؛ فصار الوطن يسمو فوق الكيانات الضيقة؛ وذلك بفضل إرساء قواعد لبناء اجتماعي راسخ، كان ولا يزال السلطان قابوس القائد والمفكر الوحيد لفكرة بناء نسيج اجتماعي خلاق.

Mydocument950@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك