أبو القفول..

عائشة البلوشية

المشهد الأول: في بداية الخمسينات من القرن الماضي، جاءوا يلهثون بامرأة حُبلى على وشك الموت، فاستقبلهم جدِّي رحمه الله وطيب ثراه، وسألهم ما بالكم؟ فردوا عليه إنّها مُتعسرة وشارفت على الموت، وأنّ القابلة لم تستطع فعل شيء يُسعفها، فنظر إلى بطنها -وهو المعروف بفراسته الشديدة- وما كان منه إلا أن أمرهم بالابتعاد عنها، فقام بلف الحبل حول كاحليها ورمى الحبل إلى غصن إحدى الأشجار وسحبه، فعلقها رأساً على عقب، وتركها فترة على تلك الحال، ثم أنزلها وقال للقابلة قومي الآن بتوليدها، لتكتب لتلك السيدة النجاة هي ووليدها، وكم نسمع عن القابلات اللائي أنقذن أمهات وأطفالهن من الموت، بطرق العلاج الشعبية، وجداتنا يستغربن اليوم من أمر العمليات القيصرية التي كثرت في أيامنا هذه، بل ويتندَّرن بأنهن كن يقمن بأضعاف الأعمال التي نقوم بها نحن في عصرنا هذا، إذا ما قلنا بأنّ الأعباء الوظيفية وأسلوب الحياة قد يكون سبباً في ذلك..

المشهد الثاني: روت لي إحدى السيدات من محافظة الباطنة، أنّها بكَّرت بولدٍ صبوح الوجه واسع العينين، في بداية السبعينات من القرن الماضي، وبطبيعة الحال بدأت النسوة في زيارتها، وجميعهن يتعجبن من اتساع أحداقه، وبعد ثلاثة أيام على ولادته أُصيب برمدٍ عجيبٍ والتصقت أجفانه، فجلست تبكي حظها ووليدها الذي لن يبصر النور، فدخلت عليها إحدى السيدات المُسنات وقد ورثت التطبيب من والدها، ووجدتها على تلك الحال الباكية قرب مهد وليدها، فسألتها عن سبب بكائها، وعندما أخبرتها قالت لها السيدة المُسنة ناوليني الرضيع، فأخذته من مهده وهو يبكي بكاء شديداً، ونظرت إلى عينيه، وبعد التشخيص قالت للأم لا تقلقي ابنك مصاب بـ"أبو القفول"، وعسى الله أن يوفقني في إيجاد "قفل حديدي حليان"، أي قفل باب عتيق غطاه الصدأ، وسأعود لك بالدواء، وبالطبع ليس لدى المرأة حيلة سوى الانتظار، فلا أطباء ولا مراكز صحية نهائيًا، وجاء الفرج بدخول المرأة المُسنة قبل غروب الشمس وفي يدها القفل الصدئ، وطلبت من الأم إحضار إناء به ماء، ومرود فضة، فطمست ذلك القفل في الماء، وبعد قليل قامت بتمرير المرود ضاغطة على الصدأ، وبعد أن تأكدت من أنّ الصدأ قد علق قامت بتكحيل مقلتي الطفل مُكررة ذات العملية عدة مراتٍ، وودعت المرأةَ قائلةً بإذن الله سيُصبح طفلك بخير ولن يصاب بأيّ مرض في عينيه، وأكدت عليها أن تحفظ وليدها من العين ورحلت، وتقسم السيدة بأنّ ابنها أصبح وكأن شيئاً لم يكن؛ ولدينا في بلدة الدريز بولاية عبري سيدة مُسنة تُعالج أمراض العيون المُختلفة، وترفض العلاج إلا بعد أن تتأكد من أنّ الشخص قد ذهب إلى الأطباء ولكنه لم يجد الترياق الناجع، ورغم ضعف بصرها إلا أنّها لازالت تستقبل كل من وفد إليها طلباً للعلاج، وسبحان من رزقها تلك الملكة، فإنّ الداخل إليها يبرأ بحول الله وقدرته...

المشهد الثالث: من منِّا لم يسمع عن "المُجبِّر" أو "المهبر"، كان لدينا في ولاية عبري مُجبر يدعى محمد رحمة الله، يعرف موقع الكسر أو الخلع ودرجته والأسلوب الأمثل لعلاجه، وكان النّاس يتقاطرون إليه من كل حدبٍ وصوبٍ، ورحل الشايب مُحمد عن دنيانا ولم يرث أيّ من أبنائه مهنته، إلا ابنته التي كان يضع يدها على موضع الكسر أو الخلع في جسد أي امرأة، ويقوم بمعالجتها باستخدام الضغط على يد ابنته، فتعلمت طريقة الفحص والعلاج، ولكنها لم تبلغ درجة اتقان والدها رحمه الله، الذي كان يعالج أناسًا خرجوا من الجبس الطبي، فيقوم بمعالجة "العلاج" ليعود العضو إلى طبيعته، ويقال إنّ كسر الشوقب (العظمة التي تمتد من الكتف إلى الترقوة) هو أصعب أنواع الكسور، ولكنه كان يعالجه بيسر وسهولة..

الخلاصة: من الذي علَّم جدي رحمه الله أن علاج المرأة بتلك الطريقة؟ وأن الجاذبية سيكون لها فعل السحر في تعديل وضعية الجنين؟ وكيف عرفت تلك المرأة أنّ ذلك النوع من الرمد علاجه الاكتحال بالصدأ؟ وكيف كان المُجبِّر محمد رحمه الله يعرف نوع الكسر وكيفية تجبيره؟ وكيف يعرف غيره من المعالجين موضع الكي بالميسم؟ وكيف عرف معالجو الالتهاب الكبدي الوبائي (أ) -أبو صفار- أن العلاج يكون بالشطابة في غضروف الأذن مع عصرة من اللومي والكركم وحمية غذائية معينة؟! وأين هم كل هؤلاء وغيرهم الكثير ممن رحلوا ورحلت المعرفة معهم؟!، لقد تناقلوا المعرفة أباً عن جد فمارسوها وأتقنوها، والسواد الأعظم منهم كان يُقدمها بلا مقابل مادي، ولكن لماذا لم يتناقل أبناؤهم المعرفة والعلوم منهم؟ هل هو زهد في تلك المهنة الإنسانية النبيلة؟ أم زهد في المعرفة ذاتها؟ أم أنّ تشعب المعرفة والعلوم شتت تركيزنا على قبلة معينة، فأصبحنا نتذوق من كل صنفٍ غرفة بأيدينا ونمضي وراء الوظيفة وتبعاتها؟ فأصبحنا نعمل في وظائفنا دون أن نتخذها مهنة نعشقها؟ نحن في أمس الحاجة لتناقل المعرفة "transfer of knowledge" والعمل بها، وهنا أعني المعرفة المغربلة والخالية من الدجل والخرافات والشعوذة، وهذا نراه اليوم في العلاج البديل والطب التقليدي وغيرها من الأشكال التي أخذت صبغة العلم، وأصبحت لها مراكز خاصة وعيادات متخصصة حول العالم...

توقيع:"اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل يعني أنّ الأحياء أموات" ابن خلدون.

تعليق عبر الفيس بوك