لا تَعْذُليه!

جمال القيسي

تبتعد بلد الغريب في نفسه وعن نفسه رويدًا رويدًا.. هو يبتعد فتجازيه بلاده بالبعاد! يتمثل هذا البعاد في روح الغريب، تماماً، حين يصير على نحو ما لا يحس أنّ الغربة أخذته بحق، فيسمع بذلك من أصداء أشواق، من هناك رويدا رويدا، لوما وعذلا. لكن سيفتر وهجه رويدا رويدا أيضا. "لا تعذليه"!. الحقيقة أنه ليس هو من يحس، في المقام الأول، أنّه صار بعيدا، بل من تركهم هناك راضيًا الاغتراب عنهم.. وغالبًا لأجلهم. تضيع ملامح الغريب، مهما قربت المسافات، ومهما قصرت ساعات الوصول بين المطارات. يصير الأمر أقسى من هذيان زيارة خاطفة، وأصعب من مقام قصي صار استقرارًا!

للغربة دوامة؛ تلك الدوامة المُتسلطة التي تنسي من يقع فيها الواقع ذاته. إذ في حبائل هذه الدوامة معنى عدم القدرة على فهم ما يجري.. والسقوط في تيارات من الانشغالات المبهظة، وساعات عمل تنتهي ولا تنتهي، وبما يتضمنه ذلك من خضّات عمر يترنح بين "ما يجب وما لا يجب" على نحو غير قومي ولا وطني!.. واجب التضحية بالغربة، وواجب لزوم الغربة وليست، هنا، لزوم ما لا يلزم. تبدأ رويداً غربة البعيد حين ينهمك بتغييب السؤال، وعدم الرغبة بفهم أنّه بعيد ولا بد أن يظل كذلك. ويستفحل معه مرض الغربة حين يستمرئ الغياب أكثر فأكثر.. شهر بطوله.. ثم يغيب أكثر..شهرين..ثلاثة.. ثم تتوالى الشهور فيلقى نفسه في معمعة البعاد أكثر فأكثر.. يصير امرءا مغتربا حقيقيا لا يصعقه معنى القسوة في أن تصير أيام الغربة أكثر من فترة البقاء في الوطن!

يقولون إنّ الغربة في بعض البلاد تشبه الرمال المتحركة التي تسحبك رغمًا عنك فتقع في كبد الصحراء، ولا يسمع منك بعدها أيّ صوت أو نأمة، وصوتك حتى إن جاء فلا يأتي إلا مجروحاً بالغبار. تظن أن صورتك باقية هناك، وصوتك يصل مهما ابتعدتْ، لكنك واهم في ذلك السؤال، وطيبٌ في تفاؤلك المطلق باستمرار تدفق أشواق الأحبة.

تغيب تمامًا وتنسى.. كأيّ شيء عادي غاب، ولم يعد له أثر. فقط كنت هنا.. تنسى كمصرع وخيالات ذكرى.. وربما أقل وأقسى.

جدير بك، ويليق بشخصك، على إمعانك في الغياب أن تنسى.. وتستحق أكثر ألا تكون هناك بصورتك الأولى، مهما تكن ناصعة، ولا تحتاج أي آخر ينبيك أنك ضعت هناك ولا أحد يحفل بك هنا.. لعلك ضيعت عنب الشام وبلح اليمن.. هل صحيح موضع المثل؟ ربما كنت صوتاً تلاشى في هواء الغربة فما عدت شيئاً يذكر في رحلة الشتاء، ولا أثرا يرتجى في رحلة الصيف.

كل الذين ضاعوا، في الغربة، لا يمكن لهم نقش صورة الوطن إلا على ظاهر الروح، ولكنها لن تلوح كباقي الوشم. لأنّ الغياب انتهاء.. شئتَ أم أبيت. أنت انتهاء. الغياب اندثار ومحض ذكرى لا تبل صدى الظمآن، ولا تقدم شيئاً للحضور كمعنى.. لأنّ الحضور كان أن تبقى، وتحتمل، وأن تحفر صخر الممكن، وأنت اخترت الظعن في أقاصي بلاد الآخرين، وأمعنت في ضعف النأي، ولم تعد انثناءة تنهيدة في ناي بلادك. هذا ما تجنيه عليك القرارات الخسارات، أو وهم البطولة في نفسك التي يثبت متأخرًا أن هذي البطولة ليست سوى مقارعة طواحين الهواء، والهروب من وجه مكابدة الواقع، الحلو على مرارته، حين تقيسه بمرارة حلو الغربة.

إن كنت لا تدري لا يُهم لو تأخرت عن موعد انتظار الأحبة لك في المساء. لأنك لن تأتي أصلاً. التأخر يكون للحاضر، وأنت محض غياب، ليس لك ولا من حقك نيشان التأخر وعتب المنتظرين الأحبة.

ولن يفتقد أحدك أحد في مقهى أو شارع أو مكالمة هاتفية أو حتى لقاء مصادفا في بيت عزاء.

لزامًا عليك الخروج من حصن ورقي واهٍ وتحميل الأحبة وزر محبتك؛ ألست من اختار الاغتراب، وكان من الممكن أن تبقى؟ فلا تعذليه!.

تعليق عبر الفيس بوك