المسلمون وجبال الألب.. قراءة في الآثار التاريخية

ناصر الحارثي

يُحاول مُحمَّد السمَّاك في دراسته التي جاءت بعنوان "عندما احتلَّ المسلمون جبال الألب" تقديم قراءة جديدة للوقائع التاريخية التي حَدَثت أثناء توغُّل المسلمين في غرب أوروبا، بطريقة تحليلية ينقدُ من خلالها فكرة تراجع التوسُّع الإسلامي العربي؛ بسبب الطبيعة المناخية والجغرافية.

وتمثل معركة بواتيه في جبال البيرينيه (Pyrenees) في العام 732م، الحدثَ الأبرز في المدونات والكتب التاريخية التي تحدثت حَوْل التوغُّل الإسلامي في غرب أوروبا، وتصور الكتب التاريخية الأوروبية أنَّ القائد الأوروبي شارل مارتل ألحق بهم هزيمة ساحقة وطاردهم حتى تمَّ التخلص منهم في فترة وجيزة، ولكن الأمر يبدو أنه أوسع من تلك القصص البطولية والتي تظهر تعصُّبا للكنيسة في أوروبا، خصوصا مع التنقيب الذي حصل في العقود الأخيرة والذي أظهر آثار التواجد الإسلامي ليس من الناحية المعمارية وحسب، بل من الناحية الثقافية والاقتصادية واللغوية أيضا. ولقد كشفتْ دراسة أجراها البروفيسور مانفرد وينر أستاذ التاريخ في جامعة اليونز الأمريكية -في دراسته حول الوجود العربي والإسلامي في وسط أوروبا، في العصر الوسيط- الكثيرَ من الوقائع التاريخية، والتي تفند تلك الصورة التي تظهرها الكتب التاريخية الأوروبية.

ويُمكننا تعقُّب التواجد العربي في منطقة غرب أوروبا من خلال تتبع منطقة فراكسيناتوم والتي تمثل مركز المسلمين في جنوب فرنسا، وهي أحد أهم المناطق التي استعمرها العرب، والتي كانت تشكل منطقة ذات بُعد سياسي وجغرافي وديني، فهي مَعْبر للحجاج للوصول إلى روما، ولأنَّ المسلمين شكَّلوا فيها تحصينات دفاعية، وهي منفذ تجاري مهم لكل من فرنسا وشمال إيطاليا وسويسرا؛ لذلك استطاع العرب أن يبسطوا نفوذهم لأكثر من ثلاث عقود على عدد من المدن في غرب أوروبا؛ مثل: مدينة أستي (Asti)، ومدينة آكوي (Acqui)، وأديرة مثل: نوفاليز، وأولكس، وفينا، وفالنسيا. ولقد سيطر العرب على الممرات الأساسية الثلاثة بين إيطاليا وفرنسا، ويمكن تعقبها تاريخيا وجغرافيا من خلال دراسة آثار جبل المور، وتبرز أهمية الجبل من خلال اسمه؛ حيث إنَّه المسمَّى الذي كان يُطلق على عرب الأندلس في أوروبا.

وعلى الرغم من سيطرة العرب على مناطق حيوية ومهمة من خلال جبل المور، وتوسعاتهم وهجماتهم الداخلية، لم يتعرَّض العربُ لهجمات شرسة كما تُصوِّرها لنا كتب التاريخ الأوروبية؛ وذلك عائد إلى أمرين؛ الأول: مُرتبط بأنه في تلك الفترة توسع نفوذ العرب في المنطقة، وهاجموا حتى المناطق الشمالية، إضافة إلى تمزُّق الأوروبيين وتشتتهم وتقسُّم الولاءات وحتى تحالفهم مع العرب ضد بعضهم البعض، ويتجلَّى ذلك في الملك هيجو الذي حاول القضاء على مستوطنة فراكسيناتوم وإبطال منظومتها الدفاعية، ولكن قلقه حول فقدانه لعرشه جعله في نهاية الأمر يتحالف مع العرب المسلمين ليحافظ على ملكه من الزوال، وحاول الكاتب وضع تفسيرات وتأويلات حول دوافع العرب المسلمين في تفسير التوغل العربي في جبال الألب وإقامة مستوطنة فراكسيناتوم، بعدما دَحَض فكرة عدم قدرة المسلمين على التوسع وفكرة التفوق الأوروبي عسكريا في المنطقة، ولقد وَضَع السمَّاك عددا من الاحتمالات؛ من أهمها: فكرة الغنائم والثروات التي يجنيها الأشخاص الذين يقومون بالهجوم على تلك المناطق، خصوصا وأنَّ مَنْ يشن الحملات هم رجال من الأندلس وهم أصحاب ديانات مختلفة، والتي يُسمِّيها الكاتب بالهجمات الصيفية؛ حيث إنَّها تجري خلال فترة الصيف، والالتزام بركن الجهاد كفريضة ولو بطريقة شكلية، وقد يكون لجلب الصقالبة كعبيد ليخدموا الملوك في قصور أوروبا، ولقد اشتهر اليهود كوسطاء في تسهيل عملية نقلهم إلى أوروبا؛ بحيث أنَّهم يتعاملون مع الطرفين من أجل تحقيق هذه الغاية، ويتميَّز الصقالبة بقوامهم الرفيع وقوتهم البدنية، وهي عملية تجارية بحتة يشترك فيها المسيح واليهود والمسلمون، ولقد برَّر السماك انحسار التوغل الإسلامي وتوقفه وانهيار المستوطنة إلى حدثين تاريخيين مهمين؛ هما: التواصل الدبلوماسي بين الملك أوتو الأول ومخاطبته لعبد الرحمن الثالث لوقف المساعدات عن مستوطنة فراكسيناتوم، وكذلك انتقال الحكم لابنه الحكم الثاني والذي جنح في سياسته إلى التسامح والسلام، وأوقف الإمدادات لتلك الحركات، والتي لم تكن تلقى اهتماما من قبل الدولة الإسلامية. ويؤكد على هذا الافتراض عَدَم قيام الدولة بأي تشكيلات إدارية وسياسية في ذلك الإقليم، كما جرت العادة من قبل الخلافة الإسلامية عند كل منطقة يتم السيطرة عليها، وكذلك الانتكاسة السريعة التي حدثت في المستوطنات التي أقامها العرب هناك.

وهناك عدة أدلة ومؤشرات حول النفوذ الإسلامي في غرب أوروبا في كلٍّ من: إيطاليا وفرنسا وسويسرا، من آثار المساجد ومقبرة للمسلمين في أحد الممرات الرئيسية، وتصميم بعض الكنائس والتي ترشح الآثار بأنها مساجد سابقة، أضف إلى ذلك القلاع والتحصينات والتي صُمِّمت بنموذج يعود إلى العرب. أما المؤشرات اللغوية، والتي تُعتبر التحدي الأكبر بسبب صعوبة تحدِّي أصل المصطلح -بسبب التغيرات التي حدثت عبر الزمن في أي لغة أو لهجة اعتمد العرب عليها في تواصلهم مع السكان الأصليين- فتَظْهَر الآثارُ اللغوية من خلال عدد من المصطلحات الجغرافية التي لا تحمل أي أصل لاتيني ويبدو أنها ذات أصل عربي، وكذلك بعض المصطلحات التي تبدأ بـ"أل" التعريف، كما أنَّ الدلائل الاقتصادية تعتبر من الملامح الرئيسية للآثار الرئيسية في تلك المنطقة من خلال إدخال زراعة القمح وشجر البلوط وتحويل لب الشجر إلى قطران وهي كلمة متداولة في تلك المنطقة، أضف إلى ذلك المناجم التي أقامها العرب في تلك المنطقة. أمَّا من الناحية الاجتماعية، فوجود الرَّقصات في تلك المناطق الجبلية التي تحتفل بطرد المسلمين من تلك المناطق، واتهام أهلها بأنهم ذوو أصول عربية، واستعباد الأوروبيين لأبناء تلك المنطقة لفترة من زمن امتدَّت لقرون، وكذلك الزواج المختلط والذي أنتج أعراقًا متباينة، ونبذ أبناء المنطقة للحم الخنزير رغم أنه مورد غذائي واقتصادي مهم في تلك المنطقة، كلها تترك آثارا ومؤشرات على الوجود العربي في عدد من المناطق في سويسرا وفرنسا وإيطاليا.

لقد دأبتْ الكتب التاريخية الأوروبية على إظهار الوقائع التاريخية بطريقة متعصِّبة للكنيسة؛ حيث إنَّها لم تُوْرِد ذِكْر العرب، بل تصفهم في الأغلب بالغزاة، وهو ما يُبيِّن الانحياز في التوثيق التاريخي، كما أنَّ عدم تدوين العرب لتلك الأحداث يُبيِّن أنَّها لم تشكل منطقة ذات أهمية إدارية وسياسية للخلافة الإسلامية، كما أنَّ عددا من الكتابات أظهرتْ أنَّ العرب اتَّسموا بالتسامح مع سكان المنطقة، ولم تظهر عليهم التوجهات للسيطرة الاقتصادية على أبناء تلك المنطقة إلا بعد مَعْرفتهم بتوقف إمداد الخلافة الإسلامية لهم. وفي هذا السياق، يظهر الكتاب تفسيرات تبدو منطقية، ولكنها تفتقر لتوثيق تاريخي حقيقي ولتسلسل زمني واضح، خصوصا وأنَّ جلَّ الأحداث والآثار حدثتْ في ثلاثة عقود فقط دون تدوين تاريخي واضح.

تعليق عبر الفيس بوك