تحوُّلات الثابت والمتغيِّر في الإسلام

قَيْس الجهضمي

يذهبُ الكاتب حسن حنفي في مقاله المعنون بـ"جدل الثوابت والمتغيِّرات في الفكر الإسلامي"، إلى التعبير عن تحولات الفكر الإسلامي ضمن مُصطلحي "الثابت" و"المتغير" قديما وحديثا، فهما مصطلحان ضروريان تكامليان في كل فكر وثقافة ودين، ولا يُفهم أحدهما إلا بالآخر. كما لعبت تحولات هذين المصطلحين الأيديولوجية دورا في الصراعات الاجتماعية والسياسية، بناء على أنَّ الدولة هي التي تتمسَّك بالثوابت حفاظا على ثباتها، والمعارضة هي التي تسعى للتحرك داخل المتغيِّر لتغيير الوضع القائم، وبما أنَّ النصَّ الدينيَّ هو المركز الذي تستند إليه أفكار الديانة وسلوك أصحابها وتطلعاتهم، كانت النصوص المحكمة هي المعبِّرة عن الثوابت، والنصوص المتشابهة هي المعبِّرة عن المتغيرات التي تؤوَّل على ما يُناسب العصر وحاجاته، وهي في هذا التأويل تسعى للموازنة بين الثوابت والمتغيرات للحفاظ على استقرار المجتمع وتطوره.

والفكرُ الإسلاميُّ يحتوي على ثلاثة أنواع من العلوم كان لكل منها حضور خاص في الفكر الإسلامي؛ فكان أقواها العلوم النقلية الخالصة؛ وهي: علوم القرآن والحديث والفقه والسيرة والتفسير، ثم تأتي بعدها العلوم النقلية العقلية التي عايشتْ حضورا متذبذبا في الفكر الإسلامي بين القوة والضعف، وهي: علم أصول الدين وأصول الفقه وعلوم الحكمة وعلوم التصوف. أما النوع الثالث وهو العلوم العقلية الخالصة -سواء الرياضية أو الطبيعية- فقد غابتْ وانقطعتْ عن الفكر الإسلامي، وحلَّ محلها العلوم العقلية الخالصة من الغرب، وقد حدثت تغييرات داخل هذه العلوم بسبب الواقع الذي نزع السلطة من الإسلام وأعطاها للغرب بجانب تطور العصر وتقلباته؛ مما أثَّر على الثابت والمتغير داخل هذه العلوم.

ففي العلوم النقلية، لم يُوجد الثابت لأنَّ العقل لم يكن حاضرا فيها فكانت خالصة، وبعد تحولات العصر ودخول الترجمة بدأ إعمال العقل في النقل؛ فعلوم القرآن يمكن أن يأخذ النص فيها دلالات جديدة ومتعددة، وبحكم تغيُّر الواقع يتغيَّر الفكر والفهم للنص، وما دلالة الناسخ والمنسوخ إلا لإمكانية حصول التغيير في الحكم الشرعي طبقا لظروف العصر؛ فأصبح الوحي ثابتا. أما فهم النص على مقتضيات الواقع، فهو المتغير.

وأيضًا في علوم الحديث غاب الثابت؛ فقد تمَّ تدوين الحديث في عصر الرواية الذي كان فيه التدوين لأجل العلم؛ فكانت حاضرة في بقية العلوم كاللغة والتفسير والتاريخ...وغيرها. أما الآن، فالرواية مَوْضع النقد، ويجب التحقق من السند والمتن وصحته قبل الأخذ بالحديث.

أمَّا علم التفسير فهو من المتغيرات، والتفسيرات على أنواعها ليست مقدَّسة، بل هي -كما يقول حنفي- "اختيارٌ طبقا لأهل الاختصاص". بمعنى أنَّ كلَّ مفسِّر يختار المعنى الذي يطابق اهتمامه واختصاصه، ويمكن للتفسير أن يساير العلوم الحديثة من علم النفس والاجتماع والتربية، كما أنَّ التفسيرَ لا يلزم أن يكون على ترتيب سور القرآن التسلسلي؛ بل قد يكون على الموضوع وما يخصه من آيات، خصوصا تلك التي تهتم بالواقع والإنسان والعالم.

وكذا في عِلْم السيرة فهي ليست ثابتة، بل إنَّ كل سيرة هي قراءة لحياة الرسول بما يُناسب ذلك العصر؛ فكانت السير الأولية التي كُتبت عن حياة الرسول سببها الدفاع عنه وتعظيمه ورفع قدر رسالته، ثم كُتبت السير الحديثة فمنها ما أظهر أنَّ الرسول ليبرالي مثل "حياة محمد" لمحمد حسنين هيكل، وأنه اشتراكي في "محمد رسول الحرية" للشرقاوي، وأنه كان مع الأقباط "محمد رسول الله" لنظمي لوقا...وغيرها.

وفي الفقه كان تقنينا للشريعة كما يُعبِّر صاحب المقال، وكانت بداية الدورة الفقهية الأولى هي الاهتمام بالواقع والمصالح المرسلة (مالك)، ثم مَضَتْ للعقل والنظر عند "أبوحنيفة"، ثم توسط "الشافعي" بين العقل والواقع، وأخيرا أخذ النص بدون تأويل (ابن حنبل). أمَّا الآن، فقد تغيَّرت المصالح، وتغيَّرت مناهج الاستدلال، وتحوَّلت الوسطية إلى أيديولوجية نظم الحكم، وأصبح النص الخالص دون تأويل لا يُناسب الواقع؛ لذا جعل الفقه الجديد الأولوية للمعاملات على العبادات، وصارتْ المعاملات بلا ثوابت على عكس ما في العبادات.

أما العلوم العقلية النقلية، فكان الثابت قديما في علم أصول الدين هو نظرية الذات والصفات والأفعال؛ فالذات إثبات للوحدانية ونقض التعدُّد، وفي الصفات والأفعال تنزيه الخالق عن تشبيهه بمخلوقاته، وحاول الأعداء التشويش على العقائد للحصول على سيادة الدولة، فانتصرتْ العقائد الأشعرية بسيادة الدولة الأموية ضد عقائد الفرق الأخرى، وسعت الأشعرية قديما إلى الأولوية للنقل على العقل، وللإيمان على العمل، وجعل الإمامة في قريش. أما الواقع، فجاء على خلاف الأشعرية؛ فالعقل مُقدَّم على النقل، والعمل على الإيمان، وجعل الإمامة في الرجل الصالح والإمام العادل بغض النظر عن نسبه القبلي.

وفي علم أصول الفقه، كان قديما الثابت هو النصوص، والمتغيِّر المصالح، ووضعت بعض القواعد مثل: "لا اجتهاد مع النص"، وصارت الأمة تعاني من غياب المصالح بسد باب الاجتهاد، هذا ما دعا إلى البحث عن نص يوافق المصلحة بما تسمح به اللغة الأصولية لمواكبة ظروف كل عصر وتقلباته -كما يذكر الكاتب- ومنها: الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه...إلخ، فأصبحت الثوابت هي مقاصد الشريعة، والضروريات الخمس: النفس والعقل والدين والعرض والمال، وصارت المتغيرات هي التحسينات والحاجيات الحياتية لكل عصر.

وفي علوم الحكمة "الفلسفة"، يذهب حنفي إلى أنَّ ثوابتها كانت على ثلاثة أقسام: منطقية وطبيعية وإلهية، وقُسِّم الإنسان على أنَّه بَدَن تابع للطبيعة ونفسه للإلهيات، وحديثا أعطى الغرب مفهومي الإنسان والتاريخ خاصة بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في حين اشتغلت الأمة الإسلامية على مفهومي الله والخلود، وتحوَّلت الثوابت في المواضيع المطروحة من إثبات وجود الله وخلق العالم والخلود إلى الطبيعيات الجمالية والبحث في قضايا الإنسان والعالم وتطوره.

أمَّا علوم التصوُّف، فكان من ثوابتها الانعزال عن العالم، وترك الدنيا، وعلى الإنسان أن يطلق نفسه لله يفعل بها ما يشاء، فيكون مثل الريشة في الريح. ويقول حنفي إنَّ حقيقة هذه الثوابت هي مُتغيِّرات؛ إذ نشأ التصوُّف عندما استحال على الناس أخذ السلطة من بني أمية؛ فذهب بعض الأتقياء إلى الحفاظ على صفاء النفس وطهارتها والاشتغال بأمر الآخرة، وكان غاية هذا الأمر هو الاتصال بالله عن طريق المحبة إلى أن يفنى في محبوبه. أما الآن، فنجد أنَّ الثوابت ما زالت باقية نفسها القديمة والمتغيرات لم يُصبها التحوُّل رغم تطور الواقع ووجود أدوات لمقاومة السلطة والظلم والعدوان.

وفي علاقتنا مع العالم، لا يزال الغرب هو مَصْدر العلم لدينا، ولا يزال العرب يشعرون بالنقص اتجاه الثقافة الغربية؛ كما أنَّ الثقافة الغربية مزجتْ نفسها مع الثقافة العالمية، وجعلتْ لنفسها السيادة على باقي الثقافات، فإنَّ هذا الأمر ليس ثابتا إلا عند الغربيين، بينما هنالك وجود لثقافات أخرى قد تكون لها السيادة، وربما تحوُّلات الظروف الحضارية تجعل من المُصدِّر للعلم موضوعا للعلم والدراسة، فلا سيادة لثقافة واحدة للأبد؛ لذا فعلى الواقع الإسلامي أن يُوازن بين الميل الكبير للثوابت على حساب المتغيرات، الذي غالبا ما يأخذ بالفكر الإسلامي إلى الماضي ويبعده عن الحديث.

تعليق عبر الفيس بوك