لمحات عن أدب التصوف

سالم المشهور

الأدب الصوفي كان وما يزال مليئاً بالرمز والاستعارة وتوظيف التجارب الروحية للأنبياء والأولياء، وكما يقول مولانا النفري: "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، وطبيعة التجربة الباطنية التي يخوضها الصوفي تحتّم عليه أن يلوذ بالاستعارة التي تتجاوز كل ظواهر اللغة الرسمية؛ لذلك كان الصوفية على مدار تاريخهم ينتمون إلى "حزب الخوارج" على قواعد الفهم العرفي للغة؛ فلقد كان الصوفية من مختلف الأديان والفلسفات يُقبلون على اللغة الرمزية المتحررة من جمود قواعد اللغة لإنتاج أدبهم الخاصّ والتنفيس عن تأملاتهم اللاهوتية والميتافيزيقية والحياتية.

في مقاله "جناحاي إلى العنقاء" تحدث الكاتب اللبناني فيكتور الكك عن تجربته الشخصية في عالم التصوف والبحث عن معرفة جديدة عن الله تعالى، فأستاذنا الكك يبدو أنّه لم يقتنع بالأجوبة الجاهزة أو المُعلبة من رجال الدين، بتعبير آخر : لم يقتنع بالقدر الذي اختار له أن يكون مسيحياً وإنما انفتح على كل التجارب الروحية الشرقية، فجمع بين روحانية الإنجيل وقداسة القرآن الكريم وانفتح كذلك على الديانات الهندية والشرقية واغترف من معينها الروحي.

وأنا أقرأُ تجربته الروحية التي سكبها في مقال أدبي رفيع، قفزت إلى ذهني مقولة طالما ردَّدتها وأنا أنظر إلى الاقتتال الطائفي والسياسي البغيض في المنطقة، كنت أقول كلما سمعت ورأيت القتل باسم الله : "التصوف سفينة النجاة من طوفان الكراهية" .

1- في موطن المجوس

هكذا يحلو للأستاذ الكك أن يُعبّر عن تواصله مع الثقافة الروحية في إيران، والتعبير يُشتم منه التقدير الكبير للديانة المجوسية، بوصفها تحمل تجربة روحية أو صوفية ناضجة، فهو يرى أن : " المجوس شاركوا زرادشت نبي إيران العتيقة دينه" وهذا يدل في نظره على أن "حقيقة الأديان واحدة" .

وبدايات الأستاذ الكك في هذا التواصل الروحي مع الثقافة الروحية الإيرانية بدأت مع "رباعيات عمر الخيام" التي كلفته مصروفه الأسبوعي كاملاً، فاضطر إلى أن يمشي أسبوعاً إلى مدرسته بلا مصروف، يقول الأستاذ الكك متحدثاً عن هذه التجربة مع الخيام : " شاركت الخيام عطشه إلى كشف الستر عن المعنى الأكبر، إلا أنّ حيرته لم تشوّش إبرة بوصلتي المتجهة باستمرار نحو القطب الأعلى" .

والكتاب الثاني الذي اطلع عليه الكك في التجربة الروحية الإيرانية هو " الشاهنامة" للفردوسي شاعر الملحمة الفارسية الأكبر.

يقول متحدثاً عن هذه التجربة : "استمرت حكايات المجوس وعقائد الزرادشتية وأساطيرها تشغلني، إلى جانب تأملاتي في الإنجيل والقرآن، إلا أنّ العام التالي 52، 53 فتح لي أفقاً جديداً على الفلسفة الهندية أو بعبارة أصح الديانات الهندية" . وخلاصة هذه التجربة تجسدت فيما أسماه " الكشف الروحي" والذي هو باختصار: " قوة تتجاوز قوة العقل إلى اللا محدود".

وفي عام 1956 سجل الكك نفسه في طليعة الراغبين في دراسة اللغة الفارسية في إيران وبعدها نال منحة دراسية إلى جامعة طهران، وعندها تكامل حلمه في العيش في أرض المجوس.

وكأني به تحقق بمعنى الأثر الصوفي الذي جاء فيه: "الطرق إلى الله عدد أنفاس الخلائق" وكأني به استمد من روح وعقل الشيخ الأكبر ابن عربي الذي قال:

عقد الخلائقُ في الإله عقائداً

وأنا اعتقدتُ جميع ما اعتقدوه!

2- يُخرج الحيّ من الميت

الصوفي لا يقف عند ظاهر العبارة، ولا يقتات من الألفاظ الظاهرة ويتغافل عن المعنى العميق الذي يسكن الألفاظ، الصوفي عينه على الباطن، ولا يسجن عقله في ظاهر الألفاظ والعبارات، بهذه الروح انفتح أستاذنا الكك على أدب بشار بن برد، وانفتح كذلك على خمريات أبي نواس ليجد فيهما أدباً عرفانياً يصلح أن يتزوّد به الصوفي!.

فالتأويل سلاح الصوفي وزاده وإن شئت قل: منهجه في قراءة كل النصوص، وهذا يوسّع قدرات الفهم والتحليل عند الدارس للنص، وفي التأويل يقول الكك: " وما أزال شغفاً بالتأويل إذ لولاه لما كان من معنى لأيّ نص"، فالفهم الباطني للنصوص عند الصوفية يتيح اكتشاف أو قل خلق الكثير من المعاني التي قد لا يُعطيها المعنى الظاهر للنص؛ لذلك نجد بعض الصوفية في مجالس السماع يعكف على سماع الخمريات وقصائد الغزل، ويتوسل بهما إلى مناجاة الحضرة الإلهية!

لذلك منذ بدايات تجربة التصوف في الإسلام، كان أحد أسباب رفض الفقهاء للتصوف وتكفير رموزه قولهم بوجود "حقيقة" في قبالة "الشريعة" وقولهم بوجود "باطن " مع كل " ظاهر "، وهذا ما جعل كثيرا من الفقهاء يشك في نشاط الصوفية وينظر إليهم نظرة ملؤها الخوف والتوجس والشك، ولم تهدأ هذه المسألة نسبياً إلا على يد الإمام الغزالي الذي قرب التصوف إلى الفقه، وقيّد شطحات الصوفية وأعاد القدسية الكاملة لظاهر الشريعة.

ويبقى في نفسي هذا السؤال قائماً: هل كان الغزالي أقرب إلى التصوف أم إلى الفقه؟

3- رؤيا يوحنا ومعراج سيدنا محمد

للمعراج في الأدب الصوفي الرسمي منه والشعبي قيمة معنوية كبيرة، فالصوفي يطمح لذوق تجربة النبي، ونيل رشحات ونفحات من فيض هذه التجربة. دعونا أولاً نعمم وصف المعراج على تجربة يوحنا كما نصف تجربة النبي محمد في التقليد الإسلامي، فهذا يقرب بين التجربتين.

الكك في دراسته للمعراجين استطاع أن يجد نقاط اشتراك في التجربتين بما يدعم فكرة "حقيقة الأديان واحدة" .

والمشترك في التجربتين وجود اللغة الرمزية وكثافة الاستعارات، وهذا ما سمح بوجود تأويلات منحرفة خاصة في بعض أجزاء رؤيا يوحنا اللاهوتي، والجيد في الأستاذ أنّه لا يعترف بتلك التأويلات التي هي في حقيقتها تحريفات.

4- هل العقل كل شيء؟

الصوفي يُؤمن بالعقل ولكنه يؤمن كذلك بالقلب!

العقل يمثل البرهان عنده، والقلب يختص بالكشوف والإلهام!

بل بعض الصوفية يغالون في التشيع للقلب على حساب العقل.

وأستاذنا الكك يؤمن بالقلب أو الحواس الباطنة فهو يقول: "الحال الناشئة عن الحواس الباطنة لا تتقيد بمعطيي الزمان والمكان".

ويقول كذلك في تعبير شاعري: " إن هذا القرب من الله لا يتحقق إلا بالإيمان الراسخ فهو وحده يتحدى سنة الأشياء وسلسة الأسباب والنتائج" .

ونجده كذلك يصوغ هذه الفكرة في هذا السؤال: هل الإنسان حواس وإدراك حسي وعقل مجرد وحسب؟ أليس للقلب كما يقول العارفون دور في مساعدة الإنسان على تجاوز وتيرة الحياة العادية إلى أحوال لا يجد لها تفسيراً بالمنطق المعهود؟ وكلماته في تأكيد هذه الفكرة كثيرة .

وخلاصة ما يُمكن أن أختم به المقال هو الآتي: لقد كان فيكتور الكك مخلصاً لقدسية القلب، لقد رفض تأليه العقل، لقد ظلّ وفياً لعالم التصوف الذي أقام لبناته الأولى المسيح عندما قال : "مملكتي ليست من هذا العالم" .

لقد استعاد الكك صوفية المسيح التي صلبتها الكنيسة.

تعليق عبر الفيس بوك