كاتب وسط "أمة اقرأ"

زينب الغريبيَّة

يُمسك الكاتبُ بقلمه أو بلوحة مفاتيح جهاز حاسوبه، ويبدأ بالكتابة مما ألهمه عقله وجادتْ به قريحته اللغوية؛ ليشكِّل مقطوعة متناغمة من الكلمات المنتظمة في نثر أو شعر أو رواية أو كتاب علمي أو تخصصي أو كتاب عام، جهد كبير يبذله ذاك الكاتب؛ فمن الممكن أن يتطلَّب موضوعه بحثا كبيرا ليدعم أفكاره، ويحتاج أحيانا إلى ساعات وساعات من الإلهام الكتابي، وقد لا تتنظم الأفكار وفق رغبته في لحظات متتالية، والكثير من العناء، ليخرج حتى لو بمقال أو خاطرة، ولكن يبقى أن يفكر ذلك الكاتب في أين يذهب كل هذا العناء؟ ولمن؟ وماذا يجد هذا الكاتب في المقابل؟

أيذهب للنشر؟ فمن الذي ينشر ومن يهتم لذلك؟ وكيف يتم النشر؟ وما العقود التي يحصل عليها الكاتب؟ وكيف يثمِّن جهده؟ وما وقعه في المجتمع؟ ما قيمة ذاك الكاتب الذي وهبه الله هذه الملكة ليغيِّر بها أشياءَ كثيرة في عقول البشر وقناعاتهم، أو يساعد في تسليط الضوء على قضايا تحتاجها المجتمعات للتخلص منها سواء على المستوى الشعبي أو الحكومي، أو أن يضيف العلم في حقول مختلفة كل حسب تخصصه.

كم عدد من يقرؤون ما يكتبه الكُتاب في مختلف سياقات الثقافة؟ أم من يقرأ ما يكتب على السياق الوطني والاجتماعي الذي يهم الجميع؟ من يكترث لما يكتب؟ كم يبلغ عدد من يقرؤون في المجتمع؟ ليس لانتشار الأمية في عدم إتقان القراءة والكتابة، ولكن لانتشار أمية المعرفة وعدم حب الاستزادة والتنور، يشعر الكاتب في مجتمعنا أنه يكتب لفئة محددة تعد على الأصابع هم دائما من يتابعونه ويقرؤون له، ويتأثرون به، وبهذا يكتفي؛ ففي مجتمعنا هذا يُعدُّ نعمة كبيرة على الكاتب أنَّ له متابعين ولو قلة، في وسط مجتمع غير قارئ.

أمَّا على المستوى الرسمي فلا يُعتد بهذا الكاتب، على أنه حامل مشعل قد ينير به الكثير من الظلام الموجود، وأنه يمتلك شيئا قد يغير به الكثير، فلا يناله سوى التهميش والتنكر؛ لأننا في مجتمعات لا ترغب في استغلال طاقاتها ومواهب أفرادها، فيجد الكاتب نفسه بين حدين أحدهما شعبي غير مكترث والآخر رسمي محبط وهادم، ليعيش في حيرة لا يخرج منها إلا بالمشعل الذي يحمله وهو القلم، ليفرِّغ به كل ذلك في قوالب شتى بما أعطاه الله من قدرة وملكة.

وبين ذلك يكمن مجتمع ما يُدْعَى بـ"المثقفين" أو "النخبة" كما يحلو لهم أن يسموا أنفسهم.. هنا تكمُن الفجوة الأكبر من وجهة نظري، فإن كان الكتّاب يعيشون في مثل هذا المناخ غير المُشجِّع، فما المفترض منهم أن يكونوا عليه مجتمعين؟ هل عليهم التفرُّق والتشتُّت ومهاجمة بعضهم البعض؟ من أجل أن يشعر الفرد منهم بأن هذا مجالي فلا تقترب منه؟ ولكني لا أرى ضَيْرا في ذلك؛ فمجتمعاتنا العربية لا تعرف سوى التشتت والانقسام، لا تعرف معنى للوحدة أو التماسك من أجل أن تكون.

فما يكون من المنتمين لهذه الفئة إلا أنْ يتنكَّروا لمن ظهر بكتابات جديدة، والبحث له عن أخطاء لغوية من بين السطور حتى يُشكِّكوا في مقدرته الكتابية، مهملين في ذلك الحكم الشمولي لماهية العمل وهدفه السامي وأثرة المنتظر، وأحيانا يشنون عليه هجمات مستقصدين شخصه، بعيدين عن الحكم العلمي المنطقي لكتابات ذاك الكاتب، وفي أضعف الإيمان يتم تجاهل ذاك الكاتب وتجاهل إصداراته، من باب عدم تضخيم الأنا لديه، وحتى لا يشعر بأنه قدَّم شيئا أفضل منهم، في هذه الحالة هل يمكننا أن نصدق أن هذه هي صفات المثقفين أو النخبة؟!

تعوَّدنا بالعربي أن نقول إنَّ الكتابة مهنة الفقراء، وأنَّ الكاتب يدفع ولا يستفيد، وأن النجوم هم المطربين والممثلين، وأن الكاتب يكتب لنفسه فلا أحد يقرأ، يسود بيننا هذا ونسمي أنفسنا "أمة اقرأ"، نعيش الكثير من التناقض في حياتنا، ونصدق أنفسنا بأننا على حق، ونمضي على ما نحن عليه، بفراغ نعتقد أنه ممتلئ، وإن كان ممتلئا، فبماذا ملأناه؟

لن أُقارن بوَضْع الغرب في هذه الصدد، فمن منا لا يعرف الفرق؟! ومن منا لا يرى نتائج هذا الفرق؟! ومن منا لا يتحسَّف على "أمة اقرأ" عندما تكون في الخلف؛ لأنها لا ترغب في التغيير، ولا تنشده، وتُصرُّ على العيش في الظل، الذي يملأه الجهل لعدم القراءة، والتأخر لعدم الاكتراث بالإنتاج العلمي وما يحمله الكتَاب من علم وتنوير، فيتخرَّج الطالب من الجامعة أو الكلية يحمل شهادة جوفاء لا دراية له بما حوله من تطوُّر في العلم والمعرفة على الأقل في مجال تخصصه، يخلو عقله سوى من بعض المعلومات المتبقية من حفظه في بعض المساقات التي درسها في مسيرته في جامعته أو كليته!!

وتظهرُ هنا الفروق الفردية بين الكتاب في إصرارهم وتشبثهم بالحياة والعطاء؛ منهم من يقف على رجليه مصارعا لكل تلك العقبات، ويمسك بقلمه ويسطر كل ما يجود به، ويحارب في كل تلك الأوساط المختلفة، في ظل غياب حب الكتَاب، ومحاربة شخص الكاتب، يدفع بالتي هي أحسن، مؤمنا بأنَّ الله لن يضيع أجر من أحسن عملا، وأن لكل مجتهد نصيب لابد أن يُثمر يوما ما، وأما النوع الآخر من الكتّاب فلن يصل لاسم كاتب أصلا لأنه رَضِي بهذا القدر.

zainab_algharibi@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك