حب في مبنى قيد الإنشاء

عهود الأشخرية

"في عام 1979 غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان.. وبعد 10 سنوات حين انسحب السوفيت؛ كانت البلاد قد أصبحت كمدينة الأشباح! الخراب. مصحوبًا بحرب أهلية وبالعهد الوحشي لنظام الطالبان وبثلاث سنوات من الجفاف دفعت الملايين من الأفغان للهروب من بلادهم (تعتقد الأمم المتحدة أن يران تستضيف 1.5 مليون لاجئ أفغاني الآن). أغلب الجيل الصغير كان قد ولد في إيران.. ولم يسبق أن كان لهم وطن." بهذه المقدمة التاريخية يبدأ الفيلم الإيراني "باران" كتحذير من كمية الألم التي قد تصادفك في هذا الفيلم - على الأقل فيما قد يكون حقائق مستمرة.

مشهد (1)

ينطلق المشهد الأول في الفيلم وفيه تظهر يد تصنع الخبز حيث تفرشه في البداية ثم تشكله على شكل دائرة وفي النهاية تضعه في الفرن حتى يستوي! أن يبدأ فيلم بهذا المشهد فمعناه أن تتضح صورة الحاجة إلى الرغيف والتي تعني الحاجة إلى العمل (قوت الحياة الأبدي). لا يظهر هنا وجه من يصنع الخبز لكن من خلال تلك الأيادي الصغيرة يبدو أنّه لا زال طفلا. يتحول المشهد إلى رجل آخر يحمل رغيفة وهو يسير بلا سبيل لتلك اللحظة حتى يرى شخصين يلعبان مع بعضهما ويمرحان! من خلال هذه الزاوية تحديدا كان هذا الرجل ينظر إلى الحياة باتساعها. يغيب هذان الشخصان؛ فيواصل الرجل طريقه في هذه الحياة التي لا يعلم ما قد تخبئه له في المستقبل.

فيلم باران للمخرج "مجيد مجيدي" والذي صنع لنا سينما حقيقية من خلال أفلامه التي ذهبت بنا لأعماق الروح الإنسانية وإلى دفء التساؤلات والرؤى وإلى حقائق أكثر وضوحًا.

مشهد (2)

بطل الفيلم لطيف والذي يقوم بدوره "حسين عبديني" والذي ظهر في المشهد الذي كان يراقب فيه الحياة من زاويتها الأجمل ويبتسم هو ذاته المسؤول في عمله عن شراء المواد الغذائية التي يحتاجها العمال من البقالة التي عثر على نقود وهو في طريقه إليها، لا يمكن لأحد هنا أن يشعر بسعادته خصوصا في ظل وجود رب عمل ظالم وجبار. لطيف الذي لا يعلم ما هو اللطف الكوني الذي قد يحل به في هذه الظروف الصعبة التي يواجهها يمضي إلى عمله بكل جهد حتى وإن ظهر يتذمر في بعض المواقف.

مشهد (3)

يبدأ رب العمل الشرس بالظهور ومعه تنكشف الحقائق حيث كان يوبخ العمال الأفغان الذين تحت مسؤوليته ويعترف هنا أنّه يفضل العمالة الأفغانية التي تبذل جهداً كبيراً مقابل مبلغ مالي بسيط"، حيث تظهر هنا كمية التسلط والعبودية تجاه الآخر، واستغلال ضعفه وحاجته لمصالح شخصية. لا شيء أقبح من العبودية لكن ماذا يمكن لمحتاج مهاجر إلى بلاد أخرى أن يفعل في حياته القاسية؟

مشهد (4)

باران بطلة هذه القصة والتي قامت بدورها "زهراء برهامي" وهي فتاة أفغانية وصلت إلى هذا المبنى بطريقة ما، فقد كان والدها يعمل في هذا المبنى حتى سقط وأصيب في كسر في رجله، فاضطرت باران للقيام بدور والدها والذي أوجب عليها التنكر واتداء ملابس رجالية، إضافة إلى أن اسمها سيصير منذ الآن "عبد الرحمن"، يوكلها رب العمل بداية إلى عمل مثل عمل والدها وهو يتطلب منها حمل مواد بناء ثقيلة ونقلها إلى مكان آخر، لكن ضعفها لم يساعدها على ذلك فلاحظ المقاول ذلك ومنها قرر نقلها إلى عمل أبسط من ذلك وهو الاهتمام بالمطبخ وشراء اللوازم الناقصة من البقالة.

مشاهد سينمائية كثيرة:

يبدع مجيد مجيدي في تصوير هذا الفيلم من خلال الموسيقى التصويرية التي اعتمد فيها على الطبيعة بالإضافة إلى موسيقى شعبية إيرانية تظهر في البقالة، والبطلة باران أدت دورًا متقنًا حيث إنّها لم تتكلم طول فترة عملها في المبنى لكنها كانت تستخدم الإيماءات بطريقة مذهلة.

حين انتقلت باران إلى العمل في المطبخ غضب لطيف كثيرا لأنّ تلك مهمته فبدأ غضبه يصل إلى مستويات الكسر ورمي مواد المطبخ على الأرض، فيما تقوم هي بإعادة ترتيبها وزرع الحياة في ذلك المكان المُهمل.في مشهد آخر يراقب لطيف باران (عبد الرحمن) التي كانت تقف خلف ستار وينصدم بأنّها تمشط شعرها الطويل بكل لطف الإناث ثم تلف عليه الحجاب الخاص وتغطي رأسها ورقبتها لتتحول من باران إلى عبد الرحمن وهنا في هذا المشهد يتعاطف معها لطيف ويبدأ بالنظر إليها بطريقة مختلفة ويساعدها؛ يظهر ذلك في المشهد الذي كان يطاردها فيه الأمن حين يكتشفون أن ثمة أفغان يعملون في هذا المبنى. تنجو باران من تلك الملاحقات لتبدأ حياة أخرى.

بعد ذلك تبدأ رحلة لطيف في البحث عن باران التي وقع في حبها بينما هي لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن تعلم في الأساس أنّه اكتشف حقيقتها.. تتوالى المشاهد الدقيقة حتى تظهر باران وهي كاشفة وجهها الذي تضطر في المشهد الأخير أن تغطيه تحت نظام لا يدعو إلا إلى استعباد الناس من خلال أفكارهم. ينتهي الفيلم لكن حتماً لن ينتهي الحب ولا البحث ولا محاولة الهرب من الظلم.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك